Al-Arab Blog - مدونة العرب
٢٠٠٣/١٢/٢٦
فن الإساءة الحضارية إلى الذات
فن الإساءة الحضارية إلى الذات
السيد يسين
كاتب ومفكر – مصر
عدت من رحلة إلى المغرب حيث عقدت بمدينة الرباط في مقر الأكاديمية المغربية ندوة عالمية موضوعها حوار الثقافات هل هو ممكن؟ وقد شارك في هذه الندوة مجموعة مختارة من أبرز المثقفين الغربيين والعرب، الذين يمثلون عديداً من الاتجاهات الفكرية· وقد عرضت في هذه الندوة بحثا لي عنوانه: الحوار الحضاري العالمي: رؤية ثقافية عربية حاولت فيه أن أقدم نظرية واضحة عن الأسئلة التي يطرحها الحوار وشروط تنفيذه وكيفية إدارته، والمعايير التي يمكن على أساسها اختيار المشكلات التي سيدور حولها الحوار·
وقد ركزت في عرضي على أنه ليس هناك حوار حقيقي للثقافات إذا لم يقم على أساس النقد المزدوج وأعني بذلك على وجه التحديد نقد الذات وتفكيك خطاب الآخر·
والواقع أن ممارسة النقد الذاتي - كما أكدت من قبل أكثر من مرة - ليست فضيلة عربية، ولكنها فضيلة غربية أساساً! بحيث يمكن القول إن أحد أسباب التقدم الغربي هو الممارسة المنهجية للنقد الذاتي في المجتمعات الغربية· وهذا النقد الذاتي يقوم به في بعض الأحيان أعضاء النخب السياسية الحاكمة إذا قصروا أو أخطأوا في عملية صنع القرار، وكذلك حال المثقفين والكتاب والمفكرين، الذين يراجعون مواقفهم السياسية وفقا للأحداث الكبرى العالمية والإقليمية والمحلية، أو إذا ما اتجهوا إلى تغيير وجهة مشروعاتهم الفكرية، نتيجة للتطور الذاتي للمثقف، أو كانعكاس لتغيرات الظروف المحيطة به·
ويكفي في هذا الصدد أن نشير إلى استقالة عديد من السياسيين والمثقفين واليساريين من الأحزاب الشيوعية الأوروبية عقب الغزو السوفييتي للمجر عام ،1956 بعد أن أدركوا أن الاتحاد السوفييتي كقوة عظمى، يتصرف في الواقع وكأنه قوة إمبريالية استبدادية غاشمة، ويعتدي بذلك على حرية الشعوب· وقد اندفع بعض هؤلاء من بعد إلى مراجعة موقفهم الفكري من الماركسية ذاتها، وقاموا بإجراء مراجعات متعددة، سواء من زاوية هجرها أصلا كنظرية أو منهج، أو محاولة تعديل بعض مقولاتها·
ويمكن القول إن الشيوعية الأوروبية التي صيغت لتتناسب مع قرار عدد من الأحزاب الشيوعية الأوروبية لكي تدخل اللعبة الديمقراطية كما تمارس من خلال الانتخابات الدورية في عديد من البلاد الغربية، تعد تطبيقاً خلاقاً لممارسة النقد الذاتي، وإن كانت هذه الحركة قد صعدت وهبطت من بعد نتيجة أسباب متعددة·
وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى نموذجين بارزين لمفكرين كبار مارسوا النقد الذاتي، وإن كان في اتجاهات متعارضة· المثل الأول هو الفيلسوف الفرنسي الشهير لويس التوسير الذي برز في أواخر الستينيات بمجموعة كتب أشرف على تحريرها مثل كتابه من أجل ماركس وغيرها· وكان مشروعه يقوم أساساً على تجديد الماركسية، وأحدث هذا المشروع دويا عالميا، وأصبحت لأفكاره تطبيقات متعددة في الفلسفة والسياسة والاقتصاد بل أيضاً في الأدب والفن·
غير أن لويس التوسير أحس في لحظة ما بفشل مشروعه، ولم يتوان عن ممارسة النقد الذاتي، وذلك في مؤتمر شهير نظمته الشيوعية الإيطالية روسانا روساندي والتي كانت قد استقالت من الحزب الشيوعي الإيطالي احتجاجا على جموده الفكري· وكان عنوان المؤتمر: الماركسية في المجتمعات ما بعد الثورية · وشارك لويس التوسير في المؤتمر ببحث صغير موجز وإن كانت له دلالات متعددة· وقال فيه منتقداً نفسه واتباعه: كنا نبحث عن جوهر خالص للنظرية الماركسية، غير أننا أدركنا أخيرا أنه ليس هناك جوهر خالص لأي نظرية ! بعبارة أخرى أن الحفر في التربة حتى الجذور للوصول إلى النظرية - أي نظرية - في حالتها الأولى النقية المبرأة من الشوائب وهم باطل ماله من أساس! أما النموذج البارز الثاني للمفكر الذي مارس النقد الذاتي بشجاعة منقطعة النظير فهو روجيه جارودي الذي كان منظراً للحزب الشيوعي الفرنسي في مرحلته الستالينية، غير أنه استقال من الحزب وتحول إلى المسيحية مبشرا بقيمها السامية، ثم فاجأ الجميع وتحول إلى الإسلام وسمى نفسه رجاء جارودي فأصبح لإسلامه دوي كبير في البلاد العربية والإسلامية، وكأن جارودي، أعزّ الإسلام بإعلانه تحوله لكي يكون مسلماً!
وإن كانت هذه الحالة بالذات تمثل نموذجاً بارزاً على التذبذب الإيديولوجي، والاهتزاز الشديد للمشروع الفكري لهذا الفيلسوف المتقلب!
وإذا كانت ممارسة النقد الذاتي بدأت تمارس بشكل إيجابي في العالم العربي، وخصوصاً بعد هزيمة يونيو ،1967 وأقدمت عليها الحركات الإسلامية والماركسية والقومية في كتب منشورة لعل أهمها الكتاب الذي أشرف على تحريره العالم السياسي الكويتي عبد الله النفيسي الحركة الإسلامية: أوراق في النقد الذاتي والكتاب الذي حرره كريم مروة حوارات ويتضمن نقداً ذاتياً ماركسياً، وكتب أخرى متعددة تحمل نقداً ذاتياً مارسه أنصار التيار القومي، فلا بأس أن نواصل المسيرة ونمارس نقداً ذاتياً من زاوية النقد الجذري لبعض الممارسات الكتابية والصحفية التي نشرت مؤخراً·
وأبرز هذه الممارسات التي أثارت ضجة ما نشر بشأن عرض مكتبة الإسكندرية للكتاب الشهير سيئ السمعة بروتوكولات حكماء صهيون ، في واجهة العرض بالمكتبة، وقرار إدارة المكتبة برفع الكتاب بعد أن وصلت لها احتجاجات قادمة من دوائر غربية متعددة· وقد راجعت ما كتب بصدد هذا الموضوع عقب عودتي من المغرب، وراعني تصاعد صوت الخطاب الغوغائي بهذا الصدد·
وقد صورت بعض الصحف الأمر وكأنه خضوع غير مقبول من المكتبة لضغوط الدوائر اليهودية والغربية، واستطلعت جريدة الأسبوع آراء عدد من المثقفين في هذا الموضوع، الذين أجمعوا تقريباً على أن مصادرة الكتاب من المكتبة بحسب تعبيرهم تعد خضوعاً للضغوط الدولية·
والواقع أنه بعد الضجة التي أثارها مسلسل فارس بلا جواد وبعد هذه الضجة المفتعلة بصدد مكتبة الإسكندرية واستقلال عملية صنع القرار فيما يتعلق بما يعرض ولا يعرض، أثارت استغرابي الشديد· ووصلت إلى نتيجة مهمة هي أننا بتبني هذه المواقف الفكرية المتخلفة أصبحنا عباقرة في فن الإساءة الحضارية إلى الذات، وتقديم صورة مشوهة للمثقفين العرب، يمكن أن تجعلهم محل سخرية على الصعيد العالمي·
خذ على سبيل المثال تشكيك بعض الكتاب العرب في عدد ضحايا المحرقة اليهودية الهولوكست مما جعل دوائر شتى تتهمهم بمعاداة السامية· ما هي مصلحتنا في التقليل من حجم هذه الخسائر؟ وهل لو كان الضحايا ثلاثة ملايين إنسان فقط لا خمسة ملايين كما تزعم الدوائر اليهودية سيخف استنكارنا لهذه الجريمة ضد الإنسانية؟
إن الهولوكست كما قلت أمام الندوة الدولية في الرباط صناعة أوروبية لا شأن لنا بها كعرب ومسلمين، وكذلك معاداة السامية هي صناعة أوروبية أخرى لا علاقة لنا بها·
فما الذي يجعلنا نتدخل - بجهالة - في وقائع تخص التاريخ الأوروبي الحديث والمعاصر؟
ومن ناحية أخرى كيف يمكن الهجوم على قرار مكتبة الإسكندرية الصائب بصدد سحب الكتاب من واجهة العرض، والذي كان عرضه ولا شك في ذلك، خطأ واضحاً؟
لماذا كان عرض الكتاب خطأ وكان لابد من سحبه؟ لأن الكتاب سيئ السمعة، ولا يعتمده كوثيقة حقيقية إلا المثقفون المتخصصون في نظرية المؤامرة الكبرى! والعجيب أن الغالبية العظمى من المثقفين المصريين الذين استطلعت آراءهم جريدة الأسبوع ، ومن بينهم مؤرخون وكتاب بارزون لم يشككوا في مصداقية الكتاب وكأنه فعلا وثيقة معترف بها تتضمن استراتيجية اليهود في حكم العالم!
ولم يفلت من هذه الدائرة سوى الدكتور أشرف بيومي الذي أدلى بالرأي الصائب والذي يتفق مع الحقيقة التاريخية، حين قرر بالنص أن كتاب بروتوكولات حكماء صهيون من صنع البوليس السري في عهد روسيا القيصرية كان يهدف لتأجيج مشاعر البغض والكراهية لليهود، لكن الحقائق تؤكد أن الصهاينة يسيرون على نهجه دون أن يكونوا مؤلفيه، وعموماً نحن لسنا ضد اليهود لكن ضد العنصرية اليهودية كدين ·
وما قرره أشرف بيومي هو خلاصة لحكم عديد من المؤرخين العالمين الذين سبق لهم أن حققوا في هذا الموضوع الخلافي· وإذا كان أشرف بيومي يرفض مصادرة الكتب - وهذا حقه - فإن كلمة المصادرة هنا لا معنى لها! لأن الكتاب له طبعات عربية شعبية متعددة، بل إن إحدى الصحف المصرية نشرته في مسلسل كامل، ومعنى ذلك أن القارئ المصري والعربي لم يحرم - للأسف الشديد - من مطالعة أحد نماذج الفكر التآمري العالمي!
ولماذا نلجأ إلى هذه الكتب المزيفة، وأمامنا التاريخ الحيّ بوقائعه المسجلة، والتي تؤكد التحيز الغربي للمشروع الصهيوني، والخضوع لابتزاز الحركة الصهيونية سواء في أوروبا أو في الولايات المتحدة الأميركية· ولدينا أيضا الوقائع اليومية الصارخة للممارسات العنصرية للدولة الإسرائيلية في محاولة يائسة لإبادة الشعب الفلسطيني؟
لماذا نترك الوقائع الحية المسجلة بالصوت والصورة، ونستند في نقدنا للمشروع الصهيوني إلى كتاب مزيف سيئ السمعة؟
ليست هناك إجابة على هذا السؤال، سوى أننا - فيما يبدو - أصبحنا خبراء في فن الإساءة الحضارية إلى ذاتنا، وتلك للأسف الشديد نتيجة لازمة للإصرار على ممارسة الخطاب الغوغائي في السياسة والفكر معاً!
وبعد قراءة هذا المقال أرى أن السيد يس فنان وعبقري جداً في الإساءة إلى الذات
0 Comments:
"Join this group" مجموعة العروبيين : ملتقى العروبيين للحوار البناء من أجل مستقبل عربي افضل ليشرق الخير و تسمو الحرية | ||
Subscribe to Arab Nationalist | ||
Browse Archives at groups-beta.google.com |
This work is licensed under a Creative Commons License.
Anti War - Anti Racism
Let the downFall of Sharon be end to Zionism
By the Late, great political cartoonist Mahmoud Kahil