These are the new scripts on the walls of Babylon: فليكن سقوط شارون سقوطاً للصهيونية What was created from lies, and nurtured by lies, must face the destiny of lies, too; Or did their God choose brain-dead mokeys unable to see beyond their sick ego's and their ugly noses ! [sic , Sharon !]

Al-Arab Blog - مدونة العرب

Iraqi Quagmire for The American Empire

٢٠٠٤/٠٢/٢٨

من النزعة الوطنية إلى الدولة المحلية المعولمة: العولمة الإقتصادية والصهينة والعرب


(صوتك في عالم أسكتت فيه الصهيونية والحديد والنار صوت العدالة)









من النزعة الوطنية إلى الدولة المحلية المعولمة:


العولمة الإقتصادية والصهينة والعرب


 



 


بقلم د. إبراهيم ناجي علوش


 


 


كان عقد التسعينات من القرن الماضي عقد الهجمات العاتية على الدولة الوطنية ومفهوم القومية والانتماء الحضاري والهوية الثقافية، خاصة في العالم الثالث والوطن العربي. ففي التسعينات، تفجّرت النزعات السياسية والأيديولوجية التي تطوق هذه المفاهيم على مستويين: مستوى النزعات ما دون الوطنية، أي النزعات التفتيتية الإقليمية والطائفية والإثنية والعنصرية، ومستوى النزعات ما فوق الوطنية، أي النزعات الاستلابية الرأسمالية المعولمة الإنسانية الظاهر.


في التسعينات، أعلن الغرب الإسلام عدوا له، وجرى العمل الحثيث على طمس معالم الهوية العربية والانتماء العربي المشترك. لكنّ هذه العملية لم تجر خارج إطار ما يحدث خارج الوطن العربي وداخله من تمدد لرأس المال المالي الدولي. لا بل إنّ مصير ظاهرة الدولة القومية والانتماء الوطني بات مطروحا على بساط البحث في الغرب نفسه، في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية. وطفق الغرب الرأسمالي بالتحدّث عن تلاشي واضمحلال الدولة القومية والنزعة الوطنية، حتى إنّ مجلة نيوزويك الأمريكية المعروفة، جعلت موضوع غلافها في عددها الصادر يوم 26/6/1995 عن نهاية الدولة القومية، كما اشتهر في الفترة نفسها كتاب بعنوان "نهاية الدولة القومية"، للكاتب Kennichi Ohmae، صدر في نيويورك عام 1995.


وإندفعت بقوة على الساحة الدولية في التسعينات مؤسسات ما فوق قومية عامة وخاصة لتلعب دورا متزايدا في الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية للأمم والشعوب، ولتتمتع بصلاحيات وقدرة أكبر على التأثير. لعلّ أهم الأمثلة على ذلك تأتي من الدور الجديد والمتعاظم للشركات متعدية الحدود، والمؤسسات الدولية مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، ومجموعة ال G7 (أو منتدى السبعة الكبار)، والمنظمة الأوروبية للتعاون والتنمية المعروفة باسمOECD ، ونادي روما، ومنتدى دافوس، وبعض وكالات الأمم المتحدة، وبعض المنظمات غير الحكومية مثل منظمة العفو الدولية (Amnesty) وحركة السلام الأخضر ((Greenpeace، وغيرها كثير.


المهم، إنّ هذه المؤسسات الدولية صار يتمدد نفوذها، ليس في الفراغ، بل على حساب سيادة الدول الوطنية والقومية على الأرض، وعلى حساب الهوية الثقافية الوطنية والانتماء الحضاري في الفكر والوجدان. وقد حدث هذا الأمر في العالم الثالث والعالم الصناعي المتقدم على حد سواء، وإن كان بدرجات متفاوتة. فبدأت تطرح التساؤلات عن مصير ظاهرة الدولة القومية التي نشأت في أوروبا مع الثورة الصناعية، والتي ظهرت خارج أوروبا، وإن بسمات ما قبل رأسمالية قبل ذلك بأمدٍ طويل عند الصينيين والفرس والعرب وغيرهم لتصبح بعد ذلك جزءاً من التراث الثقافي لهذه الأمم.


وكان من أهم عوارض الضعف التي بدأت تعتري الدولة القومية فقدانها القدرة على السيطرة على اقتصادياتها، وانخفاض فاعلية السياستين النقدية والمالية فيها، بسبب عدم قدرة وزارات المالية في الدول القومية على التحكم بإيراداتها الضريبية من المشاريع الإنتاجية التي أصبحت تنتقل عبر الحدود بحثا عن الربح واليد العاملة الرخيصة والواحات الضريبية، وبسبب عدم قدرة البنوك المركزية على التحكم بالكتلة النقدية، أو درجة السيولة في الاقتصاد، نتيجة الحركية الرهيبة لرأس المال المالي الدولي عبر الحدود. أما على المستوى السياسي والأيديولوجي، فإنّ إضعاف هيبة وشرعية وسيادة الدولة الوطنية تلازم مع تفجّر مختلف أنواع النزعات ما دون وما فوق الوطنية، وإلى إضعاف الولاء الوطني والانتماء الحضاري لشعوب أصيلة تكونت عبر آلاف السنين.


لكنّ فهم هذه المسألة غير ممكن دون بحث التطورات التي استجدّت على النظام الرأسمالي العالمي والتحولات التي جرت فيه.  فالعولمة ليست مجرد مجموعة سياسات تفرض على العالم الثالث فحسب كما قد يبدو على السطح، بل هي قبل ذلك مرحلة محددة من مراحل تطور الرأسمالية في طورها الإمبريالي. والتوجه الحالي للنظام الدولي الجديد في إضعاف الدولة الوطنية والولاء الوطني والثقافة القومية، خاصة في العالم الثالث، جاء عند نقطة محددة من مراحل تطور الرأسمالية ليعكس من جهة المصالح الاستراتيجية للقوى المهيمنة على هذا النظام، وهي رأس المال المالي الدولي، وليعكس من جهةٍ أخرى تطوراً نوعياً في قوى الإنتاج ومن ثم في علاقات إنتاج تصبح الآن معولمة، أو لاقومية. 



التطورات الجديدة في علاقات الإنتاج


إنّ التطور الرهيب الذي طرأ على قوى الإنتاج، خاصة في ميادين الاتصالات والمواصلات والتكنولوجيا المتطورة، فرض تغييرا على تنظيم المنشأة الإنتاجية نفسها، فأصبحت تنتج على صعيد عالمي، بعدما كانت تبيع المنتجات وتستخرج المواد الأولية على صعيد عالمي.


يقول د. محمد محمود الإمام في هذا الصدد، إنّ ثمة علاقة وطيدة بين مستوى تطور قوى الإنتاج وتنظيم المنشأة الصناعية، ودور الدولة في الاقتصاد. ففي المرحلة الأولى للنظام الرأسمالي، إبّان الثورة الصناعية وبعدها، كان حجم المنشأة الصناعية صغيرا، وكان دور الدولة ينحصر بتوحيد السوق القومية وحماية الصناعة المحلية من المنافسة الأجنبية وإرساء البنية التحتية للاقتصاد والحصول على المواد الأولية من الخارج. في المرحلة الثانية، عندما فرضت عملية تطور قوى الإنتاج نشوء الصناعات الكبيرة والثقيلة، ظهرت الاحتكارات، وتحولت المنشآت الإنتاجية إلى شركات مساهمة ضخمة، ثم برزت رأسمالية دولية، حيث تتحد الدولة بالاحتكارات، ونشأت دولة الرفاه التي سعت إلى توسيع أسواق الصناعة الكبيرة في الخارج من خلال الإمبريالية، وفي الداخل من خلال رفع مستوى المعيشة. أما في المرحلة الثالثة، التي بدأت في السبعينات وتبلورت في التسعينات، فإنّ عابرات القارات والقوميات من الشركات العملاقة، أصبحت تحتاج إلى "الخروج عن نطاق الحدود الجغرافية للدولة، فلم تكتف فيها بقدرتها على الالتفاف على الدولة والتملص مما يمكن أن تفرضه عليها من قيود، بل سعت إلى احتواء الدولة وتسخيرها لخدمتها، فإذا بها تقنع بدور "مدبرة المنزل" (House Keeper)". (د. محمد محمود الإمام، من كتاب "العولمة والتحولات المجتمعية في الوطن العربي"، مكتبة مدبولي، مصر، 1999، صفحة 88).


باختصار، إنّ التوجه العالمي الذي تتبناه القوى الأساسية الفاعلة في النظام الدولي، الذي ينادي بالحرية الكاملة لحركة البضائع ورأس المال والمعلومات عبر الحدود الدولية دون قيود ولا عراقيل، ساهم بوضع مسألة سيادة الدولة القومية على أراضيها، ومسألة الانتماء الوطني التي تعطيها المشروعية، موضع التساؤل والتشكيك. وقد ترافق هذا الاختراق لسيادة الدولة الوطنية أو القومية مع تبنّي توجّهات تضعف من دور الدولة في الاقتصاد سواء من حيث دورها في التنمية أو من حيث دورها في الرعاية الاجتماعية لمواطنيها. وهذا هو بالضبط معنى تطبيق برامج "التصحيح الاقتصادي" و"إزالة الاختلالات الهيكلية" في دول العالم الثالث، بعدما بدأ تطبيق ما يوازي هذه البرامج أولا على يد مارغريت تاتشر في بريطانيا، ورونالد ريغان في الولايات المتحدة الأمريكية منذ بداية الثمانينات.


بيد أنّ هذا التوجّه لا يحدوه فقط تطور تكنولوجيا الاتصالات والمواصلات والمعلوماتية وعولمة المنشأة الإنتاجية نفسها، كما أسس د. محمد محمود الإمام أعلاه، مما أدى إلى تحوّل الاحتكارات الوطنية إلى شركات متعدية الحدود. فعلى عكس ما يفترضه الدكتور صادق جلال العظم في كتاب "ما العولمة؟" (الصادر عن دار الفكر في دمشق عام 1999)، إنّ الجانب الأساسي للعولمة لا يتلخص كنهه بعولمة المنشأة الإنتاجية، رغم أهمية هذه الظاهرة واتساعها في العقدين الأخيرين من القرن العشرين. فالمنشأة الإنتاجية، أي الصناعة بشكل عام، وقعت منذ أمد بعيد في النظام الرأسمالي في قبضة رأس المال المالي الذي أصبح بذلك يتربع على عرش النظام بأكمله. فإذا كانت المسألة الأساسية في علاقات الإنتاج في النظام الإقطاعي هي: من يسيطر على الأرض؟، وإذا كانت المسألة الأساسية في علاقات الإنتاج في المراحل الأولى من النظام الرأسمالي هي: من يسيطر على الصناعة؟ فإنّ المسألة الأساسية في هذا الطور من الرأسمالية هي: من يسيطر على رأس المال المالي، الذي يسيطر على الصناعة ومنشآتها الإنتاجية وباقي قوى الإنتاج بالتعريف.


إنّ الجانب الأساسي للعولمة اليوم هو تحوّل رأس المال المالي بفعل تطور تكنولوجيا الاتصالات والمواصلات والمعلوماتية إلى:


1)                 رأس مال عابر للحدود، وهذا الجانب من العولمة شبيه جزئيا بالعولمة التي اشتد أوارها في بدايات القرن العشرين، التي كتب عنها المفكرون الماركسيون الأوائل من هلفردنغ إلى لينين.


2)                 رأس مال دولي يجني أرباحه أساساً، لا من عمليات الإنتاج والتبادل والتوزيع، بل من المضاربة والربا والعمليات غير الإنتاجية بوجه عام، وهذا هو الجانب المستجد من العولمة التي نعيشها اليوم، وقد سلّط الأضواء عليه د. رمزي زكي، وسماه العولمة المالية، في كتاب مهم بعنوان "العولمة المالية:الاقتصاد السياسي لرأس المال المالي الدولي" (صدر عام 1999 عن دار المستقبل العربي).


تقسم حركة رأس المال إلى نوعين: حركة رؤوس أموال طويلة المدى، وحركة رؤوس أموال قصيرة المدى. أما حركة رؤوس الأموال طويلة المدى، فتسمى كذلك لأنّ رؤوس الأموال ترتبط فيها بمنشأة إنتاجية مادية، فهي تؤدي إلى استثمار ملموس في مصنع أو مزرعة وما شابه، ولا تسهل إعادة تحويلها بسرعة إلى نقد أو سيولة دونما خسائر كبيرة. أما حركة رؤوس الأموال قصيرة المدى، فتأتي من الاستثمار في عمليات غير إنتاجية، مثل بيع وشراء الأسهم والسندات والعملات الأجنبية والعقارات والمشتقات المالية وما شابه، وهذا النوع من الإستثمارات لا يساهم بحل مشكلات البطالة والنمو الإقتصادي لأنه لا يزيد من التوظيف أو كمية السلع والخدمات، ولكنه أقرب إلى السيولة من المؤسسات الإنتاجية الصناعية والزراعية وغيرها ويدر الأرباح على المدى القصير.


بيت القصيد هو أنّ حركة رؤوس الأموال قصيرة المدى، بهدف المضاربة، وليس بهدف بناء الطاقة الإنتاجية، ازدادت سبعة عشر ضعفا في الدول الصناعية الرئيسة، بينما ازداد الاستثمار الأجنبي المباشر، أي الذي يرتبط بنشاط إنتاجي، خمسة أضعاف فقط، ما بين عامي 1980 و 1997. وصدّرت الدول الصناعية بشكل صافي إلى دول العالم الأخرى حوالي 93 مليار دولارا عام 1997 مثلا على شكل استثمار أجنبي مباشر، ولكنها استفادت من تدفق 273 مليار دولار إليها على شكل استثمار في الحافظة المالية، أي حركة رؤوس أموال قصيرة المدى (أنظر الجدول رقم 1-3، صفحة 79 من كتاب د. رمزي زكي). أما حركة رؤوس الأموال طويلة المدى، فإنّ معظمها يذهب من دول متقدمة إلى دول متقدمة أخرى بنسبة تتراوح ما بين أربعة أخماس أو ثلثين اعتمادا على السنة (أنظر الجدول رقم 5-4، صفحة 136، من كتاب د. رمزي زكي). أما نسبة الثلث أو الخمس التي تذهب من الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى العالم الثالث، فإنّ معظمها يذهب إلى مناطق جغرافية محددة مثل دول جنوب شرق آسيا، وليس إلى دول العالم الثالث على قدم المساواة. أما المضاربات، فكانت هي المسؤولة عن الانهيار الذي وقع في جنوب شرق آسيا عام 1997، وفي روسيا والبرازيل عام 1999.


إذن، نستطيع أن نستنتج أنّ السمة الأساسية للعولمة الحديثة هي العولمة المالية، وليس عولمة المنشأة الإنتاجية، رغم أهمية الأخيرة، ورغم وجود ترابط غير مباشر ما بين الظاهرتين، باعتبار أنّ رأس المال قابل للتحول من شكل استثماري إلى آخر على المدى المتوسط أو البعيد..  لكن الظاهرة الأساسية التي فرضت نفسها على العالم في العقدين الأخيرين من القرن العشرين في سياق ما يسمى العولمة لم تكن النمو الإنفجاري للإستثمار الصناعي من قبل المنشآت الإنتاجية المعولمة، بل إنفجار الإستثمارات المالية في نشاطات غير إنتاجية، في المضاربات على مستوى عالمي، الأمر الذي أدى إلى الأزمات المعروفة في جنوب شرق آسيا وروسيا والبرازيل. فقد أصبح رأس المال المالي يرتع على مدى الكرة الأرضية بقوة دفع التطور الهائل في قوى الإنتاج، في ميدان تكنولوجيا الاتصالات والمواصلات والمعلوماتية، الأمر الذي جعل الجانب الأساسي للعولمة الحديثة يأخذ شكل عولمة علاقات الإنتاج الرأسمالية وبنيتها الفوقية، وبتحديد أكثر، عولمة البنية الفوقية المحلية حسب وزن كل من كتل رأس المال المالي الدولي في النظام العالمي الجديد، وهو الأمر الذي جعل العولمة تلقب بالأمركة. أما اقتصاديا، فقد أخذت العولمة الحديثة شكلين أساسين هما:


1)                التحول المتزايد للرأسمالية إلى رأسمالية مضاربات تجني الربح من نشاطات غير إنتاجية في القطاع المالي وعملياته على مستوى كوني، وقد بلغ عدد البنوك والشركات المالية في العالم عام 1995 نحو 127 بنكاً وشركة مالية، وتنبع أهمية هذه الشركات من كون تصدير واستيراد رأس المال العصب المركزي للعولمة.  والعولمة المالية هي نمط ومؤسسة.  فهي من جهة حركة رؤوس الأموال في أرجاء المعمورة، وازدياد هذه الحركة بشكل كثيف خلال العقدين الأخرين من القرن العشرين، وهي من جهةٍ أخرى حزمة القوانين والتكنولوجيا والشركات العملاقة التي تدير وتسهل وتعيد إنتاج العصب المركزي للنظام العالمي الجديد، أي رأس المال المالي الدولي.  وتشكل عولمة المنشأة الإنتاجية في جانبٍ منها النتيجة المباشرة لحركية رأس المال المتزايدة، على الرغم من أن الإستثمار في المنشآت الإنتاجية يمثل الجانب الثانوي من حركة رؤوس الأموال المعولمة. 


2)                على مستوى إنتاجي، تحوّل المصنع أو المنشأة الإنتاجية الواحدة إلى منشأة تقوم بكل جزء من أجزاء عمليات إنتاج سلعة واحدة في بلدان مختلفة، وهو الأمر الذي يفرّق الشركة متعدية الحدود عن الشركة متعددة الجنسيات. فالأخيرة كانت تقوم بعمليات إنتاجية كاملة في بلدان غير بلدانها، أما الثانية، فهي من نتاج العولمة الحديثة. الأولى تنشئ مصنعا كاملا للسيارات في ألمانيا الغربية، إذا كانت أمريكية مثلا، أما الثانية، فتنتج جزءا من السيارة في مكان ما، وجزءا آخر في مكان آخر، ثم تجمع الأجزاء في مكان ثالث، وتبيع السيارة في مكان رابع. الشركة متعددة الجنسيات أو القوميات (القديمة) اسمها بالإنجليزية (Multinational Corporation)، أما الشركة متعدية الحدود أو متعدية القوميات، فاسمها بالإنجليزية (Transnational Corporation) أي عابرة القوميات (الجديدة)، وهذا فرق مهم جدا لتحليلنا.


الشركة متعدية القوميات لم تعد مرتبطة كالسابق بالبلد الأم، بل نراها تنقل مقرها الأساسي ببساطة خارج البلد الأم، حيث الضرائب أقل والخدمات أفضل. الشركة متعددة القوميات هي شركة تنطلق من قاعدة قومية محددة أمريكية أو ألمانية أو يابانية لتمارس نشاطاتها الإنتاجية والتسويقية على مستوى دولي. أما الشركة متعدية القومية فهي شركة ذات طبيعة طفيلية بالنسبة للدولة القومية، لا تنتمي الواحدة منهما إلى الأخرى أيديولوجياً.


يقول مؤلفا كتاب فخ العولمة بيتر مارتن وشومان في هذا الصدد عن طفيلية الشركة متعدية القوميات: "فبضائعها تنقل عبر الطرق وسكك الحديد الممولة من قبل الحكومة، والعاملون لديها يرسلون أبناءهم إلى المدارس العمومية وقادتها الإداريون يمتعون أنفسهم بما تقدمه المسارح ودور الأوبرا الحكومية [في الغرب] من عروض. إلا أنها، مع هذا، لا تشارك في تمويل هذه وما سواها من المرافق العامة، إلا من خلال الضرائب المفروضة على دخول ما لديها من عمال ومستخدمين، ومن خلال الضرائب المفروضة على ما يستهلكه هؤلاء العمال والمستخدمين من بضائع. ولما كانت دخول العمال المأجورين، أيضا تميل إلى الانخفاض بفعل المنافسة، وبما أنّ الدولة قد حمّلت أصلا هؤلاء العاملين أعباء مالية تفوق طاقتهم على التحمل، صارت الدولة أيضا، ترزح تحت أعباء أزمات مالية هيكلية متتالية. إنّ الموازنات الحكومية باتت تخضع للتيار نفسه، الجارف نحو الأسفل، الذي تخضع له دخول السكان أيضا. ويحدث هذا كله في وقت يطالب فيه السكان حكوماتهم في المجتمعات الصناعية المتقدمة بالنهوض بأعباء متزايدة. فالطرق التكنولوجية جعلت صيانة البنية التحتية متزايدة الكلفة باستمرار. من ناحية أخرى، يحتم تلوث البيئة عمليات إصلاح واسعة جدا. وبما أنّ السكان أمسوا يعمرون مدة أطول، تزايد الإنفاق على المرافق الطبية وعلى الرواتب التقاعدية. وبناءا على ذلك كله، ليس بوسع المسؤولين السياسيين، في الكثير من الحالات، سوى الحد من الإنفاق الحكومي على كل تلك المجالات والمرافق التي ليس ثمة لوبي يدافع عنها، أعني الحد من الإنفاق الحكومي على نظام الرعاية الاجتماعية والمرافق الثقافية والخدمات العامة – ابتداء من أحواض السباحة وانتهاء بالمدارس والجامعات. وعلى هذا النحو تتحول الدول إلى مؤسسات تنفذ إعادة توزيع الثروة والدخل القوميين من الفئات الموجودة في أدنى السلّم الاجتماعي إلى الفئات الموجودة في قمته" (ص 364 – 365، فخ العولمة).


والأصح أن يقال: على هذا النحو، يؤدي التحول الحاصل في بنية الاقتصاد العالمي إلى تحول جوهري في دور الدولة، وإلى انفلات رأس المال مادياً وأيديولوجياً من قاعدته القومية، وإلى انحلال دولة الرفاه القومية الشوفينية في الغرب، وإلى بداية تبلور مؤسسات اقتصادية وحقوقية ما فوق قومية تخدم مصالح رأس المال المالي الدولي المنفلت من عقاله.


بالطبع إنّ هذه التحولات في التكوين الطبقي للبرجوازية العالمية لم تكتمل ولم تنجز بعد، ولكنها تمثل الملامح العامة للاتجاه التاريخي. فرأس المال المالي الدولي ما يزال أساسا رأسمالا أمريكيا وأوروبيا ويابانيا، رغم وجود بعض الاستثناءات هنا وهناك، في جنوب شرق آسيا مثلا. بيد أنّ تمركز ملكية رأس المال المالي الدولي في شمال أمريكا وأوروبا الغربية واليابان يخفي تحولات حقيقية في شكل هذه الملكية. فمع تطور الأسواق المالية، أصبحت أسهم الشركات الكبرى والسندات والمشتقات المالية تباع وتشترى على نطاق عالمي. وتلعب صناديق الاستثمار العالمية التي تدير أموالا هائلة دورا مهما هنا في خلق طبقة برجوازية عالمية، ما فوق قومية. فمالك الشركة هو صاحب أسهمها، وإذا كانت هذه الأسهم تباع وتشترى على نطاق عالمي، فإنّ مالك هذه الأسهم يتحول من مالك أمريكي إلى مالك أوروبي إلى مالك ياباني وبالعكس، بقدر ما تتسع عملية تبادل الأسهم مع تطور واتساع الأسواق المالية. وكذلك الأمر مع باقي الأدوات المالية، حيث تباع وتشترى اليوم على نطاق عالمي قروض هذه الشركات وحقوق شراء إنتاجها من السلع بعد أشهر أو عام مثلا. كل هذا يؤدي إلى نشوء طبقة رأسمالية ما فوق قومية، وهو الأمر الذي لا يكشفه الحديث عن عولمة المنشأة الإنتاجية، إذ إنّ العمليات الإنتاجية الخاصة بسلعة واحدة قد تتعولم، دون أن يعني ذلك عولمة الملكية، ملكية رأس المال أو وسائل الإنتاج.


المهم، أصبحت البنوك والشركات متعدية الحدود والمؤسسات الدولية تملي شروطها على الدولة الوطنية والقومية، ليس في العالم الثالث فحسب، بل في الدول الاشتراكية سابقا، وفي الدولة الرأسمالية الغربية نفسها. ويتجلّى هذا الأمر أكثر ما يتجلّى في التنافس الذي فرضته الشركات متعدية الحدود على الدول القومية في كل مكان من أجل استقطاب استثماراتها. وقد أدّى هذا التنافس بين الدول القومية على خطب ود الشركات متعدية الحدود إلى تخفيضات هائلة على المعدلات الضريبية على أرباح هذه الشركات، وإلى إعفاءات ضريبية كاملة لآجال طويلة، وإلى عطايا مالية سخيّة على حساب دافع الضرائب لعابرات الحدود.


ومن الأمثلة على هذه العطايا ما يذكره مؤلفا كتاب "فخ العولمة: الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية"، الصادر عن سلسلة عالم المعرفة في الكويت عام 1998. يقول بيتر مارتن وشومان في هذا الصدد: "فحينما توافق الشركة الكورية متعدية الجنسية سامسونج Samsung على استثمار مليار دولار في مصنعها الجديد، المنتج للأجهزة الإلكترونية، في شمال إنجلترا، لقاء حصولها على مائة مليون من وزارة الخزانة، فإنها تكون قد تساهلت كثيرا، وقبلت بسعر مناسب جدا" (صفحة 357). وبعض الأمثلة الأخرى التي يضربها بيتر مارتن وشومان هنا مثل من شركة مرسيدس الألمانية التي حصلت على إعانات تساوي ربع المبالغ المستثمرة من دافع الضرائب الفرنسي (وزارة المالية) لإنتاج سيارات صغيرة الحجم في منطقة لورين، هذا عدا الإعفاءات الضريبية. وهنالك مثل آخر من شركة مرسيدس عام 1993 التي حصلت من حكومة ولاية ألاباما الأمريكية على 55 بالمائة من تكاليف بناء مصنع جديد هناك.  بالمقابل، حصلت شركة AMD الأمريكية، التي تصنع الأجهزة الإلكترونية، على 800 مليون مارك، أو ما يعادل 35 بالمائة من مجموع الاستثمارات المتوقعة لقاء تشييدها مصنعا جديدا لإنتاج شرائح الكمبيوتر في مدينة دريسدن الألمانية.


لاحظوا إذا من المثال السابق أنّ شركة ألمانية تحصل على تنازلات من حكومة ولاية أمريكية، وأنّ شركة أمريكية تحصل على تنازلات من ألمانيا. فاتجاه التنازلات ليس بالضرورة للشركات الأمريكية من الحكومات غير الأمريكية، بل من الدولة القومية إلى الشركات عابرة الحدود، وهذا مهم. فشركة جنرال موتورز (GM)، حصلت على إعفاء ضريبي كامل مدته عشر سنوات في تايلاند وبولندا، وشركة سيمنز الألمانية حصلت على المليارات من ألمانيا والمفوضية الأوروبية كمعونات لتطوير شرائح الكمبيوتر (microprocessor Chips) تحت حجة منع اليابان والولايات المتحدة الأمريكية من احتكار إنتاج هذه الشرائح، ثم بنت مصنعا مشتركا في مدينة ريتشموند الأمريكية، بالتعاون مع شركة موتورولا الأمريكية لإنتاج هذه الشرائح المتقدمة. وهكذا تتحالف الشركات متعدية الحدود مع بعضها وتتعاون حسب الضرورة. وصدر خبر مثلا في الصحف يوم 24/6/2000 مفاده أنّ شركة ديملر كرايسلر اشترت عشرة بالمائة  من شركة هونداي الكورية، وكانت الشركة نفسها قد اشترت ثلث شركة ميتسوبيشي اليابانية قبل أشهر من ذلك.



من الدولة القومية إلى الدولة المحلية المعولمة


ولكن ما سبق لا يعني أنّ علاقة الدولة القومية بالشركة متعدية الحدود هي علاقة عدوانية بالضرورة، ولا يعني على الإطلاق أنّ الدولة في طور الانحلال أو الاضمحلال، وإن كانت تعيش حالة عامة من التراجع والانحسار. ويجمع عدد من الكتاب هنا أنّ الدولة ما زالت ضرورية للطبقات المسيطرة لقمع أولئك الذين يسوء وضعهم فيتمردون على النظام الدولي الجديد في الداخل أو الخارج. وقد كان تزايد أهمية الدور القمعي الداخلي والخارجي للدولة الرأسمالية جليا واضحا في ضرب الإحتجاجات المناهضة للعولمة في واشنطن وسياتل، كما في ضرب العراق ويوغوسلافيا. ويقول الدكتور جلال أمين في هذا السياق: "أما قهر العمال فهو مطلوب الآن بدرجة أكبر مما كان في أي وقت منذ الحرب العالمية الثانية، إذ إنّ العمال الآن يتحولون إلى مصدر للمتاعب والمضايقة أكثر من كونهم مصدرا للقوة الشرائية ومجالا للتسويق الواسع، كما كانوا في العقود الثلاثة التالية للحرب. فعليهم الآن أن يقبلوا ارتفاع معدلات البطالة، وتخفيض الإنفاق الحكومي، وإزالة دولة الرفاهة، فإن لم يقبلوا ذلك بنفس راضية لزم إجبارهم على قبوله. كل هذه مهام لا يستهان بها للدولة. يضاف إلى ذلك بالطبع ما يجب على الدولة أن تقوم به من مهام في ذلك الجزء البائس من العالم، المسمى بالعالم المتخلّف" (من مجلّد "العرب والعولمة" الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عام 1998، صفحة 160). ويؤكد مؤلفا كتاب "فخ العولمة"، الذي سبق ذكره، على فكرة شبيهة حين يعتبران أنّ اتخاذ تدفق السلع ورأس المال أبعادا عالمية، مع بقاء الرقابة على مستوى وطني، يؤدي إلى طفرة في الجريمة المنظمة، "فإذا لم يعد بالإمكان، سياسيا، وضع حد للضغط الفوضوي الناجم عن الأسواق المتكاملة، فإنه لا بد من مكافحة النتائج بأساليب قمعية، الأمر الذي يعني أنّ الدولة المتسلطة ستغدو الرد المناسب على عجز السيادة عن التحكم في الاقتصاد" (فخ العولمة، صفحة 375).


ما يحدث في الدول الرأسمالية المتقدمة إذن هو تحوّل في مهمات ووظائف هذه الدول، يترافق مع متطلبات التطور في قوى الإنتاج وتحوّل الاحتكارات الوطنية بالتالي إلى شركات متعدية الحدود. فالدولة هنا "لا تتعهد فقط مصالح بورجوازياتها الداخلية، بل تتعهد أيضا مصالح رأس المال الإمبريالي المهيمن ومصالح رؤوس الأموال الإمبريالية الأخرى في ترابطها داخل عملية التدويل". وهذا ما يسميه نيكوس بولانتزاس "استبطان عملية التدويل ". (أورد هذا المقتطف من بولانتزاس في مجلة "النهج"، عدد 19، صيف 1999، محمد جمال باروت في مقالة "العولمة: تناقضات الواحد المنقسم/تقادم الدولة القومية"). ويستنتج محمد جمال باروت من هذا الطرح أنّ الدولة القومية في الدول الإمبريالية تقوم بدور رعاية مصالح رأس المال الدولي، وليس رأسمالها الوطني فحسب، "دون أن تفقد شكلها كوحدة حقوقية سياسية دولية" (النهج، عدد 19، صيف 1999، صفحة 74 - 75).


إنّ الدولة القومية إذن تقوم برعاية المصالح المحلية لرأس المال الدولي، وتتعاون مع الدول القومية الأخرى التي تلعب الدور نفسه في رعاية المصالح العالمية لرأس المال الدولي من خلال منتدى السبعة الكبار G7 والمنظمة الأوروبية للتعاون والتنمية وغيرها. وهذا يؤدي بالضرورة إلى تغيير طبيعة هذه الدولة، مع انتقال أجزاء مهمة من الطبقات الرأسمالية الغربية التي تسهر على مصالحها هذه الدول، من الإطار القومي إلى الإطار ما فوق القومي. فتصبح هذه الطبقات داخل بلدانها، لا وطنية ولا كمبرادوية، بل امتدادات داخلية لآليات العولمة، لكن لها حصة الأسد في الدولة المحلية، وتنفي الدولة بذلك صفتها القومية، ولكنها تؤكد على صفتها السلطوية كدولة، من خلال ممارسة دورها الجديد، ولو كان ذلك ضمن نطاق جغرافي مختلف، وعلى مستويات سياسية وقانونية مختلفة.


أهمية هذا الاستنتاج أنّ الدولة القومية لا تنحل ولا تضمحل، ولكنها تكف عن كونها دولة قومية أو وطنية. وهذا يؤدي بالضرورة إلى حدوث شرخ بين الدولة ككيان سياسي حقوقي، والأمة ككيان اجتماعي تاريخي. وبالتالي تحدث حالة استلاب قومية لشعوب وأمم بأكملها في صيرورة العولمة وهي تشاهد بأم عينيها الدول التي كانت تمثلها تدير ظهرها لها. وهذا الاستلاب وهذا الشرخ بين الدولة والأمة هو الذي يفسر صعود نجم الحركات القومية الشعبوية في الولايات المتحدة (بات بيوكانون)، وفي أنحاء مختلفة من أوروبا (لو بان مثلاً في فرنسا).


إذن، الدولة القومية سابقا في الغرب لن تضمحل، بل ستتعزز مهماتها القمعية داخليا وخارجيا، وهي تهيئ أفضل الظروف لمسيرة قطار العولمة، ولكنها توقفت منذ مدة عن الالتزام بسياسة تأمين الرفاه لمواطنيها وتحقيق التوازن الاجتماعي، كما تخلّت طواعية أو مجبرة عن مهمة إدارة الاقتصاد. وهكذا، تصبح الدولة القومية سابقا الممثل المحلي لرأس المال الدولي، مما يخلق توترات جديدة ستجد تعبيراتها على يد اليمين المتطرف إذا لم يغيّر اليسار موقفه الخاطئ من المسألة القومية. فالأمم لم تضعها البرجوازية، وتخلّي الدولة عن الأمم التي انبثقت منها لن يؤدي إلى انحلال هذه الأمم، العكس هو الصحيح. إنّ ما نشهده اليوم في الغرب هو تفاقم النزعات القومية الشوفينية والعنصرية والشعبوية المعادية للدولة المعولمة المحلية.  فمع نشوء حاجة الرأسمالية (وليس الرأسماليات) العالمية إلى تغيير دور الدولة والنطاق الذي يمارس فيه هذا الدور نشأت الحاجة الموازية لإضعاف الحس القومي والإنتماء الوطني والإرث التاريخي للشعوب وإلى استبدال كل ذلك بالدعوات "الإنسانية" التي تتمحور حول خطاب حقوق الإنسان والحفاظ على البيئة ونزع التسلح وحرية السوق والديموقراطية الليبرالية وما شابه. والمعركة هنا تصبح معركة ثقافية وحضارية على أرضية الإنتماء، فإذا انساق اليسار بسذاجة في هذه المعركة للدعوات "الإنسانوية" التي يطلقها رأس المال المالي الدولي، بقي اليمين المتطرف في الميدان الممثل الشرعي الوحيد للأمم في مواجهة الدول المحلية المعولمة.  



"الشرق أوسطية" والتجليات العربية لمشروع العولمة


هذا في الشمال ودوله حيث المراكز التقليدية للرأسمالية العالمية (أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية واليابان)، أما في الجنوب، فإنّ الدول الوطنية تتعرض أيضاً لهجمة عاتية من الشركات المتعدية الحدود والمنظمات المعولمة، خاصة بعد هزيمة مشروع التنمية الوطنية التي تبنته معظم دول الجنوب بعد الاستقلال الوطني بعيد إنتهاء الحرب العالمية الثانية.  ولكن فلنلاحظ هنا إختلاف تأثيرات إضعاف الدول والنزعات الوطنية ما بين دول الشمال ودول الجنوب.  فإذ يأتي إضعاف النزعات القومية في دول الشمال ضمن سياق قانون التجميع الرأسمالي الما فوق قومي، كما في الإتحاد الأوروبي وإتفاقية التجارة الحرة الأمريكية الشمالية والتكتلات الإقتصادية الاسيوية، فإن إضعاف النزعات القومية في دول الجنوب يأتي ضمن سياق قانون التفكيك الما دون قومي، كما في مشاريع تفكيك دول الوطن العربي والصين وأوروبا الشرقية. 


وليست المسألة مجرد مؤامرات إمبريالية، مع أن الإمبريالية ليست ببعيدة عن مثل هذه المؤامرات.  فلأنّ الدولة في دول العالم الثالث أحدث عهدا وأطرى عودا، فإنّ إضعاف هيبتها وسيادتها وشرعيتها يتلازم بالضرورة مع تفجّر مختلف أنواع النزعات ما دون الوطنية مثل النزعات الطائفية والإثنية وغيرها من النزعات الإنفصالية على المستويين السياسي والثقافي. فلا بد أن نتذكر أنّ دول الجنوب لا تدخل العولمة على قدم المساواة مع دول الشمال، بل تدخلها من مواقع أضعف تحتكر فيها دول الشمال التكنولوجيا ووسائل الإعلام والاتصالات وأسلحة الدمار الشامل وحركة رأس المال وسهولة الوصول إلى الموارد الطبيعية، وهو ما أسماه سمير أمين "بالاحتكارات الخمس". كما أنّ كل ما سبق، لا ينفي عدم التكافؤ ما بين دول الشمال نفسها بسبب تفوق الولايات المتحدة الأمريكية الاقتصادي والعسكري والتكنولوجي. بيد أنّ عدم التكافؤ هذا لا ينفي بدوره أنّ الدولة الأمريكية نفسها هي واحدة من الدول القومية التي تعيش حاليا مخاض التحول إلى دولة محلية معولمة.


لقد أصبح واضحا إذن أنّ الدعاوى المحمومة للسماح بحرية انتقال السلع والخدمات ورأس المال والمعلومات عبر الحدود هي بالأساس دعاوى موجّهة ضد القيود التي تفرضها الدول على التجارة والاستثمار والإعلام، بهدف تغيير طبيعة الدور الذي تلعبه هذه الدول.


كما أصبح واضحا أنّ الهجمة الأيديولوجية التي تركزها أبواق العولمة على الدول الوطنية ومشروعيتها أدّت إلى تبنّي العولمة بالكامل تحت شعارات "إنسانية" عامة، مثل حقوق الإنسان (الفرد) وميّزات التجارة الخارجية والاستثمار الأجنبي، وأخرى ما دون وطنية تبرز بالضرورة عند إضعاف الدولة الوطنية والانتماء الوطني والقومي الذي تقوم عليه، تفرّخ الانتماء باتجاهات إثنية وطائفية وجهوية وغيرها. ويتفق هذا الاتجاه مع مصالح رأس المال المالي والشركات متعدية الحدود التي تقتضي إضعاف سيادة الدول عامة، وسيادة دول العالم الثالث خاصة، بالقدر الذي يسهّل وصولها إلى مصادر المواد الخام واليد العاملة الرخيصة والأسواق دون قيود ولا تعقيدات، ولكن ليس بالضرورة بالقدر الذي يهدد استقرار النظام الرأسمالي ككل، أو يمنعه من التحول إلى فسيفساء من الدول المحلية المعولمة التي تمارس حراسة مصالح رأس المال المالي الدولي.


وتصبح تأثيرات العولمة التفكيكية أكثر وطأة في الدول التي تعاني أزمة مشروعية أصلاً كما في حالة كيانات سايكس-بيكو العربية المصطنعة.  لكن استراتيجية التفكيك هذه تتقاطع في الوطن العربي مع المخططات الصهيونية لتجزئة الدول العربية، الكبيرة منها والصغيرة على حد سواء، وهنا يكتسب البعد التأمري وزناً أكبر مما يكتسبه في أي مكان أخر في العالم. وهذا بإمكاننا اشتقاقه منطقيا من السياسات الأمريكية والصهيونية التي تهدف إلى إثارة النعرات الإقليمية والطائفية في بلادنا ، كما يتّضح مثلا من الطريقة التي يتبنى بها الكونغرس الأمريكي ما يسميه قضية الأقباط في مصر (أو المسلمين في الصين!)، أو الطريقة التي تثار بها قضية الأكراد في العراق وليس في تركيا…


ينبع الدافع الصهيوني للعمل على تفتيت الدولة القطرية العربية من قناعة تشكّلت لدى الصهاينة مفادها أنّ الأمن الحقيقي لدولة العدو لا يمكن أن يتحقق على المدى البعيد طالما لهذا المنطقة هوية عربية – إسلامية، وطالما وجدت دول أو أقطار عربية نسبيا مثل مصر وسوريا والعراق. فالأمن الحقيقي لدولة العدو يقتضي إذن تغيير هوية المنطقة الحضارية إلى "شرق أوسطية" وتغيير تركيبتها السياسية والاجتماعية إلى فسيفساء طائفية وإقليمية وجهوية. فإذا بقيت هذه الأرض عربية، ستبقى "إسرائيل" غريبة فيها. أما إذا أصبحت هوية المنطقة "شرق أوسطية"، أي أصبح وضع كل المنطقة شاذا، فإنّ وجود "إسرائيل" سيصبح طبيعيا فيها.


لذلك، يتطلّب أمن دولة العدو على المدى البعيد تنفيذ مشروع تفتيت التفتيت، أو تجزئة التجزئة، من أجل خلق فراغ إقليمي يسمح للكيان الصهيوني أن يلعب الدور الإمبراطوري السياسي والاقتصادي والثقافي والأمني الذي يطمح له، ومن أجل خلق محيط تابع تستمد منه "إسرائيل" القوة والحيوية، عن طريق تحويل التهديد المحتمل إلى مجال حيوي.


قد يبدو هذا الطرح نوعا من نظرية المؤامرة. غير أنّ عددا من الوثائق الصهيونية الأساسية تثبت هذا التوجّه بما لا يدع مجالا للشك. إحدى هذه الوثاق مثلا تلك التي وضعتها المنظمة الصهيونية العالمية (World Zionist Organization)، التي ترجمها البروفيسور إسرائيل شاحاك عن جلة كيفييم (اتجاهات)، الناطق الرسمي باسم المنظمة الصهيونية العالمية، من اللغة العبرية إلى اللغة الإنجليزية عام 1982.



فيما يلي أترجم بعض المقتطفات من هذه الوثيقة:


1.                "مصر: إنّ تفكيك مصر إقليميا إلى مناطق جغرافية متمايزة هو الهدف السياسي لإسرائيل في الثمانينات على جبهتها الغربية: فإذا تساقطت مصر، فإنّ دولا مثل ليبيا والسودان، وحتى الدول الأبعد، لن تتمكن من البقاء بشكلها الحالي، وسوف تلحق بسقوط وانحلال مصر. إنّ الرؤيا التي تتمثل بدولة قبطية مسيحية في أعالي مصر، إلى جانب عدد من الدول الضعيفة ذات السلطات المحلية التي لا ترتبط بحكومة مركزية، هي مفتاح التطور التاريخي الذي أجّله فقط اتفاق السلام، والذي يبدو حتميا على المدى الطويل".


2.                "سوريا: إنّ سوريا سوف تتناثر بالتطابق مع تركيبتها الإثنية والدينية إلى عدد من الدول، بحيث يكون هناك دولة شيعية علوية على الساحل، ودولة سنية في منطقة حلب، ودولة سنية أخرى في منطقة دمشق تعادي جارتها السنية في الشمال. أما الدروز، فسيكون لهم دولة أيضا، ربما حتى في جولاننا، وبالتأكيد في منطقة حوران وأجزاء من شمال الأردن. وهذه الحالة سوف تكون ضمانة الأمن والسلام في المنطقة على المدى البعيد".


3.                "العراق: إنّ العراق الغني بالنفط من جهة، والممزق داخليا من جهة أخرى، مضمون كمرشح لأحد أهداف إسرائيل. إنّ انحلاله أكثر أهمية بالنسبة لنا من انحلال سوريا. فالعراق أقوى من سوريا. وعلى المدى القصير، تشكل القوة العراقية الحظر الأكبر على إسرائيل… وكل خلاف عربي داخلي سوف يساعدنا على المدى القصير، وسوف يمهّد الطريق لتحقيق الهدف الأهم، أي لتحطيم العراق إلى طوائف كما في سوريا ولبنان. في العراق، إنّ تقسيما إلى أقاليم على أساس خطوط إثنية دينية كما كان الحال في سوريا خلال الزمن العثماني هو أمر ممكن. وهكذا، ستقوم ثلاث دول أو أكثر حول المدن الأساسية الثلاث: البصرة وبغداد والموصل. وستنفصل المناطق الشيعية في الجنوب عن السنة والأكراد في الشمال. ومن الممكن أنّ المواجهة العراقية – الإيرانية الحالية قد تعمّق هذا التبلور".


4.                "السعودية: إنّ الجزيرة العربية بأسرها مرشّح طبيعي للتفكك بسبب الضغوطات الداخلية والخارجية، وهذا الأمر محتوم، خاصة في السعودية. وبغض النظر عما إذا بقيت قوتها الاقتصادية أم تضاءلت على المدى الطويل، فإنّ الانشقاقات الداخلية والانهيارات ستكون تطورا طبيعيا وماثلا في ضوء التركيبة السياسية الحالية".


وهناك كلام في الوثيقة من النمط التفكيكي ذاته عن دول المغرب العربي والبربر، وعن السودان وجنوبه، وعن لبنان وطوائفه، غير أنّ الجزء المتعلق بالأردن في الوثيقة قد يكون أخطر ما يقرؤه المرء لأنّه يثير النعرات الإقليمية بشكل مباشر. وأرجو أن يبقي القارئ نصب عينيه، وهو يغربل السطور التالية، أنّ المتحدث أو المتحدثين، هم الأعداء الصهاينة، فالأجدر أن نكون أذكى من الوقوع بشراكهم.



5.                "الأردن: إنّ الأردن يشكل هدفا استراتيجيا آنيا على المدى القصير، ولكن ليس على المدى الطويل. فالأردن لا يمثل خطرا جديا على المدى الطويل بعد انحلاله ونقل السلطة إلى الفلسطينيين. ليس هناك أية فرصة لاستمرار الأردن بتركيبته الحالية مدة طويلة. وسياسة إسرائيل في الحرب والسلام يجب أن تتوجه نحو تصفية الأردن بنظامه الحالي ونقل الحكم للأغلبية الفلسطينية. وتغيير النظام شرق النهر سوف يحل مشكلة المناطق المكتظة بالسكان غرب النهر، فيكون الأردن لهم، والمناطق غرب النهر لليهود. وسيكون هناك تعايش وسلام حقيقيين فقط عندما يفهم العرب أنه بدون حكم يهودي بين النهر والبحر، لن يكون لهم أمن ولا وجود، فإذا أرادوا دولة وأمن (الفلسطينيون الذين لا يعترف الكاتب بوجودهم) فإنّ ذلك سيكون لهم في الأردن فقط".


إنّ الأمر الذي لا يتحدث به أحد هو أنّ التعثّر الذي أصاب ما يسمى بعملية السلام مؤخرا، يعود جزئيا إلى عدم تحقق مشروع التفتيت الذي راهن عليه الصهاينة. فهذا المشروع، الذي يطرح أحيانا بصيغة "الشرق الأوسط الجديد"، هو مشروع السلام الحقيقي بالنسبة لهم. وسيبقى هذا المشروع خطرا ماثلا ما بقيت "إسرائيل"، تعززها ضغوط العولمة.  وهنا نصل إلى الإستنتاج المركزي لهذا الجزء من الورقة وهو أن مشروع العولمة في الوطن العربي يتقاطع مع مشروع الصهينة لينتج مشروع ما يسمى "الشرق أوسطية".  فالقوى العالمية الموضوعية للعولمة هنا تتفاعل مع مشروع ما بعد الصهيونية للهيمنة على الوطن العربي سياسياً وإقتصادياً وثقافياً.  والنتيجة لا تتلخص بتهديد وجود الأمة العربية فحسب، بل بتهديد وجود أنظمة سايكس-بيكو نفسها، خاصة الكبيرة منها التي يمكن أن تشكل عوائق موضوعية في وجه تقدم المشروع الإمبريالي-الصهيوني على الأرض.  ولعل الذي يؤكد جدية التوجه نحو مشروع "الشرق أوسطية" ضمن استراتيجية وثيقة "كيفونيم" أعلاه الأنباء الصحفية التي رشحت غداة زيارة أرييل شارون إلى بوش الإبن في 7 أيار/مايو 2002 عن ورقة قدمها شارون لبوش، بعد عشرين عاماً من وثيقة "كيفونيم"، تحمل مشروع "إتحاد دول الشرق الأوسط".  ويهدف هذا المشروع إلى تفكيك جامعة الدول العربية وإقامة إتحاد الدول "الشرق أوسطية" الذي تكون تركيا و"إسرائيل" عضوتين فيه، وتشترك فيه الولايات المتحدة الأمريكية بصفة مراقب.  المشروع الجديد حسب الصحف يقوم على مراحل تبدأ بضرب العراق وتصفية قوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية وتحجيم سوريا من جهة، وتحسين العلاقات الإقتصادية بين الولايات المتحدة وكل من الأردن ومصر والمغرب من جهة أخرى.  وتبدأ المرحلة الثانية مع تأسيس ثلاث هيئات واحدة إقتصادية وأخرى سياسية وثالثة علمية تجتمع سنوياً وتكون دولة العدو جزءاً لا يتجزأ منها، وتنتهي المرحلة الثالثة بفرض الهيمنة الصهيونية على المنطقة العربية مع العام 2020 ، وصولاً إلى محاولة شطب الهوية الحضارية للوطن العربي وإقامة الدول المحلية المعولمة من المحيط إلى الخليج التي تدور في فلك صهيوني.


بغض النظر على كل حال عن التقارير الصحفية أعلاه عن ورقة شارون إلى بوش عن "إتحاد دول الشرق الأوسط"، فإن عدداً من الكتاب عاد بالدعوات الصهيونية لما يسمى "الشرق أوسطية" كفكرة إلى هرتسل، وإلى عامي 1941-1942 كمشروع رسمي، تصبح من خلاله "إسرائيل" نواة لمركز إقليمي (أنظر كراس الدكتور غازي حسين "الشرق أوسطية: إسرائيل عظمى" الصادر عن المركز العربي الجديد في بيروت عام 1995 ، صفحة 8). 



ويعيد كتاب أخرون الرؤيا الأمريكية حول "الشرق أوسطية" إلى مرحلة أحدث حين تبلورت "في وثيقة أمريكية صدرت عن وكالة التنمية الدولية في الثمانينات تحت عنوان "التعاون الإقليمي للشرق الأوسط" وقدمت إلى الكونغرس الأمريكي، وتم التأكيد فيها على ضرورة العمل على إحلال تعاون إقليمي في الشرق الأوسط مبني على أساسين هما: الأساس الجغرافي والأساس الإقتصادي بدلاً من تعاون إقليمي مبني على أساس قومي-سياسي، والسعي إلى الإعتراف العربي بإسرائيل وإدخالها في النظام الإقليمي للمنطقة" (أنظر كتاب ماجد كيالي "المشروع "الشرق أوسطي": أبعاده-مرتكزاته-تناقضاته" الصادر عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية، أبو ظبي، عام 1998).


والخلاصة أن مشروع "الشرق أوسطية" الذي يقوم بالضرورة على استبدال الأساس القومي العربي بالأساس الإقليمي هو مشروع قديم صهيونياً، ويرتبط ظهوره عند الولايات المتحدة بفترة الثمانينات، أي الفترة التي بدأت فيها العولمة المالية تتحول إلى الظاهرة الأساسية في النظام الإقتصادي العالمي.  وإذا كان إطار هذا المشروع ما فوق قومي في الظاهر، فإن تأثيراته على الأرض لا يمكن لها إلا أن تكون تفكيكية، ما دون وطنية، لأن استبدال القومي والوطني بالإقليمي يعني دائماً إضعاف دور الدول الوطنية في مجالاتها التقليدية (القومية والإجتماعية) مقابل تقوية هذا الدور في مجالات أخرى (المحلية والمعولمة)، وبالتوازي، إضعاف مشروعية الفكر والثقافة اللذين تقوم عليهما الدولة القومية والوطنية، أي التراث الحضاري والنزعة الوطنية.                         


ويلاحظ أنّ النظام العربي دخل مؤتمر مدريد وتبنّى قولا وفعلا شعار "السلام كخيار استراتيجي" ضمن هذا السياق التاريخي سواءٌ علم ذلك أم لم يعلم. واندفعت مجموعة من الدول العربية بدرجات متفاوتة من الحماسة في مسيرة التفاوض والتطبيع التي توّجت بمجموعة من المؤتمرات الاقتصادية "الشرق أوسطية" في عمان والقاهرة والدار البيضاء. وقدّمت هذه التوجهات الغطاء السياسي لعقد اتفاقي أوسلو ووادي عربة، ولبعض الاختراقات الصهيونية في دول المغرب والخليج العربيين، في الوقت الذي أحكم فيه الحصار الرسمي العربي والإسلامي على العراق، مع أنّ هذا الحصار كان يضعف حتى أولئك الذين يريدون التفاوض مع العدو الصهيوني.


المهم، اكتشف النظام العربي متأخرا في أواسط التسعينات أنّ ما يسمى بمشروع السلام مع العدو الصهيوني ليس إلا مقدمة لتحقيق مشروع الهيمنة الصهيونية تحت عنوان "الشرق الأوسط الجديد" والمعولم، كما اكتشفت الدول العربية الكبيرة أنّ المطلوب هو تهميشها وإلغاء دورها الإقليمي وفرض الشروط الصهيونية المذلة عليها. ومع وصول نتنياهو إلى رئاسة الحكومة في دولة العدو، وتبنّي إدارة كلينتون الخط الصهيوني في التسوية بالكامل وعلنا، وجدت الدولة القطرية العربية نفسها فجأة في المأزق الذي وضعت نفسها فيه، في حالة دفاع مستميت عن النفس، فاضطرت مجبرة إلى اتخاذ بعض الإجراءات الوقائية ضد المخطط الذي يستهدفها. كان من ذلك وضع الفرامل على مسيرة التطبيع، واتخاذ مواقف دفاعية أقوى في المفاوضات مع العدو، وتجاه السياسة الأمريكية في المنطقة. ولكنّ ذلك تم ضمن حدود مدروسة جيدا، لتحسين شروط العلاقة مع المعسكر الصهيوني – الأمريكي، وللتكيّف مع مشروعه ، وإيجاد دور فيه، أي لتعديل هذا المشروع، لا لإسقاطه، ولمنع الاختراقات من خلال الدول العربية الصغيرة، وهو الأمر الذي جعل النظام العربي يفشل مؤتمر الدوحة الشرق أوسطي الرابع مثلا.


غير أنّ هذا التناقض المصلحي بين الدولة القطرية العربية التي استنفذت دورها في الإستراتيجية الإمبريالية، وبين السياسة الأمريكية الصهيونية في الوطن العربي، أعطى فسحة حيوية لتنفس القوى المعارضة للتغلغل الصهيوني في المنطقة على مستوى شعبي، وعلى رأسها حزب الله في لبنان، والقوى المناهضة للتطبيع في الأردن ومصر وباقي الوطن العربي. فكانت الدينامية النضالية التي لم يعد أحد يسيطر عليها، التي تفجّرت في الانتفاضة الشعبية الثانية في فلسطين، والتي أعادت بعض الحيوية للشارع العربي، وضربت الكثير من المكاسب التطبيعية التي حققها الصهاينة في التسعينات. ويلاحظ هنا أنّ موجة مقاطعة البضائع الأمريكية عقب الانتفاضة الفلسطينية الثانية لها أبعاد مقاومة للعولمة، بقدر ما لها أبعاد معادية للصهيونية ودور السياسات الأمريكية في بلادنا. فالبضائع الأمريكية التي اخترقت حواجز الدولة القطرية أو الوطنية باتت ترتفع في وجهها الحواجز الشعبية، وهذه سابقة نضالية مهمة سيكون لها أبعاد على مستوى عالمي.


 


نختتم هذه المعالجة بملاحظتين:


1.                إنّ مواجهة مشروع العولمة والصهينة تقتضي الإصرار على أهمية الهوية الحضارية والانتماء العربي. كما أنّ تفويت الفرصة على المخططات الأمريكية والصهيونية التي تهدف إلى تجزئة التجزئة، وتفتيت سايكس-بيكو، تقتضي إدانة كل من يتحدث بمنطق إقليمي أو طائفي. إنّ برنامج مقاومة العولمة على مستوى عالمي يتضمن الكثير من النقاط المشتركة مع برنامج مقاومة الصهينة في بلادنا، والحديث عن مقاومة العولمة بالعموميات دون اتخاذ موقف قاطع من الصهينة هنا والآن يعني فعلياً قبول العولمة.  ولنلاحظ أن المتحمسين للعولمة في الوطن العربي هم إجمالاً من أنصار التطبيع مع العدو الصهيوني، مع العلم أن برنامجي مقاومة العولمة والصهيونية ليسا بالضرورة الشئ نفسه في كل النطاقات، لأن العولمة هي نتيجة التطور الطبيعي لرأس المال الذي يمثل التطور الإقتصادي-الإجتماعي في مرحلة محددة من تاريخ البشرية، فهو بالتالي شئ طبيعي، أما "إسرائيل" فهي كيان غير طبيعي أصطنع لخدمة مصالح رأس المال في ذلك الجزء من العالم الذي يعيش فيه أهل الضاد.  لكن مشروعي العولمة والصهينة يتقاطعان في الوطن العربي في صيرورة متحدة هي مشروع "الشرق أوسطية".  لذلك، لا بد من رفض كل أشكال التطبيع مع العدو الصهيوني، ولا بد من العمل على قطع العلاقات الدبلوماسية وإلغاء المعاهدات المعقودة معه كجزء لا يتجزأ من مشروع مقاومة العولمة. فمخطط هيمنة رأس المال المالي الدولي يتحقق في بلادنا من خلال الصهينة، وبالعكس. لذا، فإنّ الانضمام مثلا لمنظمة التجارة العالمية يفتح الأبواب للعدو الصهيوني وشركاته لأنّ قانون منظمة التجارة العالمية ينص على أنّ أعضاءها لا يجوز لهم أن يميّزوا ضد بعضهم البعض.


2.                إنّ مواجهة مشروعي العولمة والصهينة يتطلب من قوى المقاومة أن تعبّئ وتنظم قواها، وأن تعيد النظر ببرامجها وطروحاتها، استعدادا للتحركات الشعبية القادمة، إذ إنّ حركة الشارع العربي لمؤازرة الانتفاضة الثانية في فلسطين دلت على وجود فراغ تنظيمي رهيب على مستوى القيادة والبرنامج.  وقد ترافق إنتشار العولمة والصعود العالمي للنظام الدولي الجديد مع الصعود العالمي للحركة الصهيونية في النظام الدولي الجديد، حتى تحولت الصهيونية من أداة إلى شريك في إدارة هذا النظام، دون أن يعني ذلك القبول بالطروحات الساذجة حول براءة الولايات المتحدة من سياساتها في بلادنا لولا سيطرة اللوبي الصهيوني عليها.  النقطة هي أن تزايد الدور الدولي للحركة الصهيونية ترافق مع تزايد دور رأس المال المالي الدولي في العولمة.  فإلى أي مدى يعبر تزايد دور الحركة الصهيونية في النظام الدولي الجديد عن تزايد دور البرجوازيين والمتمولين اليهود الذين عملوا تاريخياً في الربا والقطاعات الرأسمالية غير الإنتاجية؟!  وهل هي صدفة أن تترافق عملية صهينة العالم مع عولمته؟!  وهل هي صدفة أن تقع معظم وسائل الإنتاج الثقافية العالمية، من دور النشر إلى وسائل الإعلام والترفيه العالمية التي تنتج وتعمم القيم الثقافية المعولمة في قبضة المتمولين اليهود؟ هذه العلاقات المتبادلة بين الصهينة والعولمة تحتاج للكثير من البحث والتمحيص. ولكن الأمر الذي لا شك فيه هو أن تشابك الصهينة والعولمة يضع المعركة ضد الحركة الصهيونية على نطاق عالمي.  فلا بد لنا أن نبحث عن حلفاء أممين في هذه المعركة، في الوقت الذي نشدد فيه على حماية الهوية الحضارية لبلادنا وأمتنا.


 

0 Comments:

إرسال تعليق



"Join this group"
مجموعة العروبيين : ملتقى العروبيين للحوار البناء من أجل مستقبل عربي افضل ليشرق الخير و تسمو الحرية
Google Groups Subscribe to Arab Nationalist
Email:
Browse Archives at groups-beta.google.com

Creative Commons License
This work is licensed under a Creative Commons License
.


Anti War - Anti Racism

Let the downFall of Sharon be end to Zionism



By the Late, great political cartoonist Mahmoud Kahil