Al-Arab Blog - مدونة العرب
٢٠٠٤/٠٢/٢٨
ماذا يجري في العراق
ماذا يجري في العراق
شبكة البصرة
عبد الجبار الكبيسي
﴿ 1 ﴾
في التاسع والعشرين من آب (اغسطس)، وصلت عمّان ليلا قادما من فرنسا. كنت ارغب في الذهاب الى بلدي قبل هذا الوقت بكثير، لكن ظروف واجراءات السفر تطلبت مني مزيدا من الصبر والإنتظار. ما إنْ وضعت حقائبي في الفندق، حتى سمعت الهاتف يرن. كان ليث شبيلات على الخط. فال انه سيأتي حالا لرؤيتي. بعض افراد عائلتي جاؤوا من العراق مسرعين الى الأردن واتجهوا فورا الى مطار عمان لإستقبالي. جلسنا في بهو الفندق جميعا نحتسي فناجين القهوة ونتبادل الأحاديث حتى الفجر. في الخامسة صباحا اخبروني اننا سننطلق وان السيارة اصبحت جاهزة. في تلك اللحظات اختلطت مشاعري، البهجة بالحزن، القلق بالأمل. ها أنا أخيرا اتجه صوب وطني الذي حطمه زلزال الإحتلال. سأرى بشرا معذبيّن وحواجز ودبابات وكأن الحرب لن تتوقف. في الحادية عشرة تقريبا كنت اقف عند الحدود. على الجانب العراقي رأيت عشرات السيارات ترفرف من حولها رايات واعلام عراقية وفلسطينيّة. من بعيد تعرّفت على بعض الوجوه. لقد جاء افراد من اسرتي وعشيرتي زاد عددهم عن المئات، من بينهم اخي الأكبر عبد الرزاق الكبيسي واخي الدكتور ابراهيم. سياسيون وشخصيات اجتماعية واصدقاء قدامى ومعارف وأبناء أقارب، تركتهم صغارا وها هم يبدون في عمر رجال كبروا في لجّة حزن لا تهدأ. جاؤوا جميعا من بغداد. لم يتسن لي التعرّف على الكثيرين منهم وخصوصا الجيل الجديد. اما كبار السنّ فقد تعرّفت اليهم بسهولة وقرأت في تجاعيد وجوههم تعب السنين (الكثيرون منهم سبق لي وان التقيته اثناء زيارة سابقة قبل الإحتلال). في هذه الأجواء لم يدر في خلدي ان فلسطين ستكون حاضرة. لقد كانت في قلب هذه التظاهرة الترحيبيّة، كما هي دائما في وجدان العراقيين اعلام فلسطين ترفرف من وراء الحدود، حملها ابناء عشيرتي وعائلتي وبعض الأصدقاء.
رايات ورصاص واسلاك شائكة
ما إنْ اجتزت المسافة الفاصلة نحوهم حتى رحت اتفقدّ الوجود، في لحظات شوق وحنين لا ضفاف لهما. انطلق موكب السيارات بسرعة، ولكن ليتوقف فجأة. جاء الجنود الأمريكيون مسرعين وتقدّموا نحونا. خاطبني احدهم بالإنكليزية: اهلا بك في العراق؟ الإحساس الوحيد الذي غمرني في تلك اللحظات، حين استمعت الى ترحيب الجندي، هو المزيج عينه من الألم والحزن الذي يتسببّ به انغراس الخنجر في اللحم الحيّ. تساءلت مع نفسي عن نوع المفارقة في المشهد الأول الذي يصادفه المرء على الحدود وفي الطريق الى الوطن: مَن يكون هذا الغريب حتى يرحب ُ بي في وطني؟ لم امد يدي لإعطائه جواز السفر، فتدارك الأمر احد افراد عائلتي وتناول الجواز مني وقدّمه للجندي الأمريكي، بينما فتحت الباب وغادرت السيارة متبرّما وشاعرا بالضيق. كانت رغبتي الوحيدة ان أملأ رئتي بالهواء. هواء البرّية الفسيحة الممتدّة أمامي. بعد بضع كيلومترات حيث انطلقت السيارة، تعالت الهوسات البدوية من الموكب؛ وترددّ معها صدى الهتاف الموحدّ (التحالف الوطني كل العراق يريده). انهم يرحبون بي وبالتحالف الوطني الذي ظل يطرح، دون ترددّ، خيار الإصلاح الديمقراطي والمصالحة الوطنية من اجل تفادي الكارثة. وهم يعرفون جيدا انه - وكما سيبرهم التاريخ- كان أكثر تعقلا وتبصرّا بالعواقب. من بعيد، لاح موكب آخر مؤلف من عشرات السيارات (نحو خمسين سيارة) كان ينتظر عند مسافة 3-4 كيلومترات عن الحدود الدولية. كانوا يلوحون بالرايات واللافتات والأعلام. انضمّ موكبنا الى الموكب الجديد. فجأة بدأ اطلاق الرصاص من اسلحة رشاشة واخرى ثقيلة، وتعالت من حولي الهوسات البدوية ثانية ترحيبا وابتهاجا. بعد قليل فقط رحت اتابع السماء وهي تضجّ بأصوات طائرات الأباتشي الأمريكية. قالوا: لا بد ان الامريكيين سمعوا اطلاق النار. ها قد جاءوا. انطلق الموكب بينما غادر المسلحون - وهم من ابناء المنطقة- فاتجهنا صوب تلة قريبة حيث توجد نقطة تفتيش امريكية؛ تحتشد من حولها مجموعة كبيرة من الآليات والدبابات. شق الموكب طريقه نحو الرطبة. ومن بعيد رأيت مقرا قديما لشركة ألمانية للإنشاءات. لقد استولى عليه الأمريكيون وحولوّه الى معسكر يشرف على الطريق العام. في هذه الأثناء لم تتوقف الدوريات عن التجوال. لاحظت ان اسلوب اقامة نقاط المراقبة في المعسكرات والحواجز، التي نشرها الأمريكيون في كل مكان، يتسم عادة بوضع مدرعتين في وضعيتين متعاكستين. من الواضح ان هذا الإسلوب يعكس القلق المتزايد للأمريكيين من الهجمات المباغتة للمقاومة.
على مبعدة نحو خمسين كيلومترا من الرطبة توجد قاعدة الوليد العسكرية (الجوية). من بعيد رأيت آثار الحطام والدمار تحيط المكان كله. كأن زلزالا ضرب القاعدة. هذا هو الإنطباع الوحيد الذي خلفه في ذهني منظر القاعدة من بعيد. وحين اقتربنا اكثر كانت اعمدة كهرباء الضغط العالي تجثم على الأرض مثل اشجار نخيل هوت بفعل عاصفة هوجاء. لم يتبق من حطام اعمدة الكهرباء ايّ شيء. لقد ُنهبت الأسلاك منها. هي ذي أولى مشاهد الخراب التي تصدمني قبل ان ادخل الى مدينة الرطبة الحدودية. عند مدخل الرطبة وفي شارعها الرئيس، فاجأتنا زخات من الرصاص حيث تعالت الهوسات مرة اخرى. نزلنا من السيارات فوطقتني حشود من ابناء القبيلة والمعارف وابناء المدينة. كان هناك بضعة شبان من ابناء المدينة يحملون اسلحة ثقيلة (بي. كي. سي) راحوا يطلقون النار ابتهاجا وترحيبا وهم يحملون اسلحتهم بيد واحدة. اتجهنا صوب الخيام التي نصبت عند ابواب المنازل. قال اخي: الغداء سيكون هنا. بعد ذلك سوف نكمل رحلتنا.
تجددّ اطلاق النار بكثافة. لا احد يعرف من اين خرج السلاح. قالوا لي ان الأمريكيين يتجنبون دخول المدينة. نحو الساعة الثالثة، وبعد ان فرغنا من طعام الغداء اتجه الموكب خارج الرطبة. عند مغادرتنا المدينة متجهين صوب الفلوجة وعلى الطريق الى بغداد كانت هناك عشرات المدرعات والدبابات وهي تغلق كل المداخل والمخارج. لقد سمعوا اطلاق النار. تقدمّ الأمريكيون صوبنا مذعورين وهم يسألون عن مصادر اطلاق النار؟ قالوا: سلموّنا الأسلحة. لقد سمعنا رصاص اسلحة ثقيلة؟
بعد التفتيش لم يعثروا على اسلحة. وبالفعل، فالذين كانوا يرحبون بنا ويطلقون الرصاص غادروا المكان. انطلق موكبنا بنحو عشرين سيارة نحو الفلوجة، بينما بقي الآخرون من افراد عائلتي والأصدقاء القدامى وبعض السياسيين في الرطبة، لأنهم من سكانها في الأصل وجاءوا لإستقبالي. اتجّه الموكب على طريق الرمادي. انها اول مدينة كبيرة نتجه اليها في طريقنا الي بغداد.
معركة في الخالدية
على امتداد الطريق الطويل، شخصت امام ابصارنا مشاهد مفزعة لعشرات السيارات المحترقة والآليات العسكرية المحطمّة جرّاء القصف. كانت آثار القصف الوحشيّ لاتزال بادية للعيان بعد وقت طويل نسبيا من توقف الحرب: حفر ضخمة. الآف القذائف المتفجرّة والمتناثرة بشظاياها وهي تملأ الأرض الفسيحة. عند مدخل الرمادي اوقفتنا نقطة تفتيش امريكية. الدويات العسكرية الأمريكية تجوب المنطقة المحيطة بالمكان، وتتجه نحو المدينة في حركة لا تكاد تتوقف. ما لفت انتباهي، ببساطة، أنمّا كان منظر الجنود المذعورين الذين يقومون بهذه الدوريات. ان مظاهر الهلع التي تطبع حركتهم وصراخهم المتعالي ونظراتهم المفزوعة، وتوترهم البادي للعيان، كلها تدّل على انهم كانوا يتأهبون لأطلاق النار عشوائيا وفي كل اتجاه. صرخ الجندي وهو يطلب منا ان نترك السيارات لأجل تفتيشها: اتركوا السيارات. ابتعدوا. كان متوترا ومذعورا. تركنا السيارات بينما كانت البنادق الرشاشة مصوّبة نحونا. بعد قليل فرغوا من التفتيش وطلبوا منا ان نغادر المكان. تحركنا بسياراتنا متجهين صوب الرمادي. منظر الأسلاك الشائكة حول نقاط التفتيش وجدران الكونكريت المنصوبة، يوحي للناظر انه الشاهد الحقيقي على مقدار ونوع الفزع، الذي ينتاب جنود الإحتلال. من بعيد لاحت الخالدية. ان اسم الخالدية الذي قفز بقوة الى واجهة الأحداث، والذي ارتبط بالهجمات النوعية والبطولية للمقاومة، قد يدل على مدينة كبيرة. في الواقع ليست الخالدية كذلك. وعلى العكس فهي من المدن الصغيرة والنائية. القصف الوحشيّ الذي تعرضت له اثناء الحرب، يؤكد انها تعرضت لدمار مخيف طاول المنازل، بما ُيعيد تذكير كل من يقترب من اطرافها، بأنها مدينة أخرى من مدن العراق التي مزقها القصف. بالكاد يمكن للناظر اليها من بعيد تبيّن معالمها. ومع ذلك؛ بدت المدينة قادرة على اظهار بعض المعالم الدّالة على انها تخرج من قلب الجحيم، بالفعل، ولكن من دون انين. ان صمود سكانها والبطولات التي اجترحوها في مقاومة الإحتلال، كافية لإظهار هذا المعنى. على امتداد الطريق ايضا لم يكن امامنا سوى المنظر ذاته: سلسلة لا تكاد تنقطع من الدوريات والأرتال العسكرية المحملة بجنود الإحتلال، تسير على الطريق الرئيس بحماية مدرعات ودبابات. كانت ارتال قوات الإحتلال مكوّنة من 20 -40 آلية تجوب المنطقة. يبدو انها تتجه صوب هيت. استوقفنا الجنود الأمريكيون مرة اخرى عند حاجز تفتيش. قالوا لنا ان الطريق مغلقة. هناك (مشاكل) في الخالدية. غادرنا المكان بعد قليل. ومن بعيد مرة اخرى لاحت لنا مداخل مدينة الخالدية. من الواضح ان ثمة آثار معركة كبيرة نشبت هنا. كان علينا ان نسلك الطريق الزراعي القديم، الذي يؤدي مباشرة الى المدينة من وسطها، وهو طريق يفضي بالسائر فيه الى الفلوجة. كنت ارغب في رؤية ما حدث. ومادمت قد اضطررت الى سلوك هذا الطريق، فإن بامكاني رؤية آثار المعركة. وبالفعل رأيت هناك، على جانبي الطريق الزراعي القديم، دبابة امريكية محترقة وسيارة نقل عسكرية (في ما بعد ابلغني اهالي الفلوجة ان معركة الخالدية هذه استمرت اكثر من اربع ساعات). اتجه الموكب صوب الفلوجة شاقا طريقه من قلب الخالدية. عند مدخل الفلوجة تجمّع كثير من ابناء القبيلة والأصدقاء والأقارب. لقد ظلوا بانتظارنا عند مدخل المدينة كل هذا الوقت، لأنهم كانوا يعتقدون اننا سوف نسلك الطريق السريع وليس الزراعي القديم. اخذنا طريقنا الى وسط المدينة متجهين الى مقر (التحالف الوطني). قالوا لي ان هناك الكثير من الزعامات القبائلية والسياسية والشخصيات الوطنية، ومن اهالي الفلوجة ايضا يتواجدون في المقر. كان عليّ ان اقول شيئا للمحتشدين؛ فلم اجد انسب من الإشادة بالمقاومة وروح التصدي الباسلة. ابلغتهم بتحيات حارة حملنيّ اياها احمد بن بلا، وبتحيات مناضلين عرب تسني لي اللقاء بهم قبل وصولي البلاد. وقلت: انا واثق من ان كل المدن في العراق ستكون هي الفلوجة.
في نهاية اللقاء الذي كان قصيرا، اخذ الموكب طريقه صوب مقبرة المدينة. ذهبت لزيارة قبر والدتي واخوتي. ومن المقبرة شق الموكب طريقه صوب بغداد.
مذبحة اشجار النخيل
على الطريق من الفلوجة الى بغداد ليلا. طريق بغداد المظلم غمرني بمشاعر حزن وألم. جالت خواطر شتي في ذهني وتتالت الصور الحزينة والبطولية على حدّ سواء. الليل الكئيب ينشر ظلاله السوداء في مكان. لقد تحولت الشوارع المضاءة الى شوارع معتمة والخراب في كل مكان. من بصيص الضوء الطالع من مصابيح السيارات كان يمكن لي، ولكل عابر مثلي علي الطريق، ان يشاهد بعض معالم المدينة وقد لفها ظلام مخيف. كانت منطقة (ابو غريب) تشخص امامنا على الطريق السريع وقد بدت فيها آثار قتال شرس. الأمريكيون كانوا يتواجدون هناك بكثافة عند المداخل. حركاتهم العصبية والهستيرية تدّلل علي مقدار خوفهم وذعرهم. وحين تطلعت اليهم وهم يتجولون في المكان، رأيتهم ينشغلون في تفتيش البساتين واحراش قصب البردي، حيث تمتد بعض المستنقعات التي تحيط مدخل الفلوجة. الأباتشي تغطي سماء المدينة، بينما الدوريات تتكثف وتتزايد نقاط التفتيش والحواجز. كانوا يستوقفون السيارات ويدققون في الأوراق. هناك رأيت مشاعر الغضب من الإهانات واساليب الإذلال، وهي تطفح في وجوه العراقيين، الذين يتعرضون لفظاظات الجنود اثناء عمليات التفتيش.
يستغرق تفتيش السيارات هنا نحو نصف ساعة. انهم ُيقلبّون ويفتشون كل شيء. تساءلت: عم يبحثون هنا، في البساتين واحراش القصب وفي السيارات؟ لقد وضعوا ايديهم على سائر معسكرات الجيش المدّمرة وكانت اضواؤهم الكاشفة تغمر المكان كله. كما انهم قاموا بأكبر عملية اعدام وابادة جنونية للإشجار؟ منظر الإشجار المقطوعة وعمليات تجريف النخيل والمزروعات والحقول اكبر من ان يُحتمل. انه يدمي القلب. لقد احلوّا محل الإشجار متاريس جديدة راحت تصعد في سماء المدينة وكأنها قلاع. لاشيء يمكن ان يصيب المرء بالحزن والشعور بالمرارة من مناظر الحرق والتدمير، الذي طاول كل مكان وكل شيء: المقرات والمؤسسات ومعسكرات الجيش والبيوت والبساتين. في الساعة العاشرة ليلا انتهت اجراءات التفتيش فاتجهنا من (ابوغريب) الى العامرية، وكان طريق مطار بغداد يتلوى وسط الظلام.
امضيت الأسبوع الأول من وصولي الى بغداد في منزل اخي الأكبر عبد الرزاق الكبيسي بين اهلي واقاربي. ولكن وخلال هذا الإسبوع، وبعده مباشرة، كان عليّ ان اباشر باتصالاتي السياسية مع مختلف القوى المناوئة للإحتلال. لقد تشكلت في العراق بعد الغزو مجموعات سياسية كثيرة. الأمر الأكثر اهمية بالنسبة لي، في هذا التغيرّ المثير في صورة الحياة السياسية، هو التعرّف على طروحاتها هذه القوى والجماعات والإطلاع على رؤاها وتصوراتها المستقبلية. جاء لزيارتي الكثيرون. الدكتور وميض عمر نظمي احد قادة التيار القومي، واحمد طه العزوز (الذي يقود الجبهة الوطنية الديمقراطية) وعمر الكبيسي (جرّاح القلب المشهور) وعصام عايد (الذي يقود حزب الإصلاح) وهيئة العلماء المسلمين ممثلة في شخص الدكتور حارث الضاري، وجمع من السياسيين وضباط الجيش الكبار واعضاء من التحالف الوطني، كانوا قد سبقوني في الوصول الى بغداد. والى جانب هؤلاء كان هناك ممثلون عن التيار الناصري الموحدّ بزعامة صبحي عبد الحميد وحزب الوحدة الإشتراكي وجماعة (العراق بيتنا) بقيادة عبد اللطيف المياح (رحمه الله. فقد تلقيت نبأ اغتياله وانا اكتب هذه المقالات) ود. محمد الشواف والتجمع الوطني المستقل ورابطة شيوخ عشائر العراق التي يترأسها مشعان الضاري، الى جانب شيوخ عشائر الجميل والعبيد الذين جاؤوا من كركوك، وشخصيّات يسارية عديدة. فضلا عن شيوخ عشائر ورجال دين من الشيعة والسنّة. الأحاديث التي دارت بيننا خلال هذه اللقاءات، تركزت بمجملها على توصيف الواقع الراهن، تمهيدا لإستخلاص الأفكار الأولية عن طبيعة المهام والأهداف، التي يمكن ان تجمع كل الوطنيين داخل اطار سياسيّ. وهذا امر هام للغاية لا بالنسبة لي، وانما كذلك للآخرين، الذين جاءوا لإستطلاع آفاق العمل المشترك. من بين اكثر الأمور جوهرية، والتي يمكن استخلاصها من هذه النقاشات الأولية، كانت مسألة ادراك الجميع لأهمية إدارة الظهر للماضي والتطلع الى المستقبل. شعرت ان العراقيين جميعا لايرغبون في البقاء محتجزين داخل ماضٍ ثقيل الإرث، وانهم يريدون بالفعل التحرر من ربقته. ان جسامة وخطورة الأوضاع كانت تتطلب، على العكس من الدعوات لنبش الماضي والتوقف عن تخومه، ان يبادر الجميع الى تأسيس توافقات جديدة من اجل المستقبل. ادراك العراقيين لأهمية ان لايظلوا اسرى الماضي، كان مثيرا للإعجاب والدهشة. هذا ليس محض انطباع شخصيّ بل هو حقيقة واقعة يمكن تلمسها.
احاديث عن الجبهة الوطنية
مع مطلع الإسبوع الثاني، باشرت بسلسلة زيارات للقاء مختلف القوى والجماعات التي التقيتها. وفي اطار هذه اللقاءات، تبلورت الأفكار الأولى عن الجبهة الوطنية العريضة، التي ستضمّ كل اطياف المجتمع المقاوم للإحتلال. وفي هذه النقاشات ترسخ لدّي الإنطباع بأن الجميع على استعداد للعمل المشترك. اتفقنا جميعا على النقطة التالية: ليس بأمكان ايّ جماعة او طائفة او قومية، بمفردها، ومهما امتلكت من اسباب القوة، ومن دون التوافق مع القوى الأخرى، انجاز ايّ شيء حقيقي على طريق تحرير البلاد من الإحتلال. بيد ان الإنطباع الآخر والهام؛ الذي خرجت به من لقاءات الإسبوع الأول، وبات الآن اكثر رسوخا ووضوحا، هو الإجماع المثير عند السياسيين وعامة الناس، على ان هذا الإحتلال هو من حيث الجوهر والمضمون هو احتلال اسرائيلي بأدوات امريكية. هذه القناعة الراسخة عند الجميع، يمكن تلمسها في سياق النقاش حول اوضاع البلاد.
هذه الصورة؛ بدت واضحة في ذهني تماما عندما باشرتُ اتصالاتي السياسية، من اجل وضع اللمسات الأولى للجبهة الوطنية العريضة. شرعت في اعداد مسوّدة مشروع الجبهة. في الأيام التالية تركزت الحوارات، التي قمت بها بإسم (التحالف الوطني) مع الكتلة القومية (لجنة التنسيق القومي) ومجموعة العزوز وحزب الإصلاح وجماعة (العراق بيتنا) والتجمع الوطني المستقل وهيئة العلماء المسلمين ورابطة عشائر العراق والقيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي. بعد ذلك قمت بجولات ميدانية في الرمادي والفلوجة وابوغريب وكركوك والمدائن وديالي والصويرة. وفي سائر هذه المدن والبلدات ترسخت القناعة عندي بزوال الإحتلال، فجميع من التقيتهم من الناس العاديين والشخصيات السياسية والجماعات ورجال القبائل، مقتنعون بان النضال من اجل الإستقلال هو ما يوحدّهم. ليس ثمة من يراهن على بقاء الإحتلال، سوى اؤلئك الذين تورطوا في تشجيع غزو البلاد واستباحتها. وعلى العكس من ذلك، هناك رهان حقيقي على تحرير العراق واستعادة استقلاله. ولقد تسني لي وانا اتجول في بغداد، ان اتلمس معنى النفور من القوى المتواطئة مع الإحتلال. انهم لا يفهمون الشعب، ولا يقدرّون حقيقة مشاعره وتطلعاته. وتبلغ درجة القطيعة بينهم وبين الشعب حدّ مذهلا، حين تتطلع الى نظرات الناس المستغربة والمتسائلة، مثلا، عن السبب الذي يجعل مقر احمد الجلبي مزينا بيافطة كبيرة كتب عليها اسم حزبه باللغة الإنكليزية (INC). قال لي احد الظرفاء ونحن نمرّ بالقرب من المقر: انظر. ها هنا شركة امريكية؟. قلت له: بل هو اسم حزب. انه اختصار بالإنكليزية لإسم حزب المؤتمر. فردّ ساخرا: بل هو شركة تتخفي تحت اسم حزب.
اما الأحزاب الأخرى المتواطئة مع الإحتلال، فأنها تبدو للعابر قربها مجرد مقرات خاوية وفارغة إلا من بضع مسلحين. وعندما تسني لي المرور قرب مقر الحزب الشيوعي العراقي، رأيت بعض الرجال المسلحين، الذين يوحي منظرهم الرّث انهم بالفعل من (البروليتاريا الرثة) التي لطالما تحدث عنها الشيوعيون. رأيتهم يغفون ويتمايلون من النعاس فوق كراسيهم المتكسّرة، بينما كان المقر يبدو خاويا. لقد كان منظرا جديرا بتذكير الشيوعيين بمعني البؤس السياسي. اثناء هذه اللقاءات قمت بجولات خارج بغداد. كان عليّ ان اتجه الى كركوك. في كركوك وحين تجولت في المدينة بعد سلسلة لقاءات مع العرب والتركمان من ابناء المدينة وشخصياتها، هالني ما رأيت. لقد اضحت كل الأسماء في واجهات المطاعم ودور السينما والمدارس والإدارات باللغة الكردية. اما مزارات الأولياء (من العرب) وهي اماكن اعرفها جيدا، فقد ُأمحيت من الوجود بواسطة البلدوزرات لئلا ُيقال ان هذه اماكن اولياء من اصول عربية عاشت وماتت في كركوك. حتى شواهد قبور العرب الموتى ازيلت. كان مشهد (تكريد- من الكرد) كركوك يبدو ماثلا للعيان في كل ركن وزاوية من المدينة.
ولكم ترددّت امامي، في جولاتي وزياراتي وحواراتي مع الآخرين عبارة ان هذه (حرب شارون وليست حرب بوش). مثل هذه القناعة وبعد اربعة اشهر من الإحتلال، تعنى ان العراقيين لم ينخدعوا بشعارات المحتلين البّراقة، وان الوقت كان كافيا للبرهنة على ان الإحتلال وممارساته واهدافة المفضوحة، قد خلقا حتى في اوساط البسطاء والشعبيين من السكان، انطباعا قويا بان اسرائيل هي في قلب مشروع الإحتلال وان يدها الخفيّة ليست بعيدة عنه. ولذا ترددّت امامي سلسلة لا تنقطع من التساؤلات: لماذا يزور بول وولفوفيتز نائب وزير الدفاع الأمريكي واحد مهندسي الحرب على العراق، مدينة بابل؟ لماذا اختار بابل لو لم تكن للإمر صلة بالمعتقدات الإسطورية التوراتية؟ ولماذا وضع الأمريكيون مستشارا يهوديا لكل وزارة من الوزرات في الحكومة المؤقتة التي يديرونها؟ منذ الإسبوع الثاني تراءى العراق امامي كالمرجل الذي يغلي ويفور بالغضب والألم، لما اصاب البلاد من دمار وتخريب متعمدين، وفوضي عارمة انشبت اظافرها في ركن وزاوية. ومن قلب هذا المرجل، رأيت الى الناس وهم يبرهنون على قدرة فريدة ومثيرة واسطورية؛ فهم قادرون على التواصل في ما بينهم برغم المصاعب والأهوال والمشاق، وانعدام او انقطاع سبل التواصل الطبيعي بين سكان المدينة الواحدة. انهم وعلى الرغم من غياب ايّ نوع من الخدمات والتوقف شبه الكامل لوسائل الإتصال التقليدية، وتعطل شبكات الهاتف والكهرباء، والمصاعب التي لا تُحتمل اثناء التنقل، فإن الناس هنا يبدون منظميّن بصورة تدعو للإعجاب والفخر. انهم لا يزالون قادرين بصورة مذهلة على تبادل المعلومات والأخبار، وبسرعة لا تُصدق كما لو انهم يملكون كل وسائل الإتصال. وبالطبع؛ فإن اخبار عمليات المقاومة وضرباتها البطولية هي الأكثر شيوعا وانتشارا. انهم يتناقلونها بسرعة البرق.
يتبقى ان اتوقف امام الأمر الهام التالي الذي استخلصته من مناقشاتي مع سائر الجماعات والافراد والشخصيّات: بوجه العموم يمكن ملاحظة ان الموقف الشعبيّ من الإحتلال يبدو أكثر جذرية وتقدما، من موقف النخب السياسية والفكرية والثقافية. ان السكان البسطاء، عادة، ومع كل احتلال كما برهنت الكثير من تجارب التاريخ الإنساني، يبدون على استعداد لرؤية الواقع كما هو، من دون رتوش ولا اوهام ايديولوجية؛ وبالتالي تحديد تصوراتهم عنه، بينما تميل النخب الى تقديم قراءة اقل جذرية واقل واقعية، ربما بسبب تشوش رؤها وتصوراتها السياسية او بسبب اوهامها.
إذا كان لمثل هذه الفكرة النظرية والعمومية ان تتجسد كحقيقة، فإنها تتجسد بأبلغ الدلالات في الواقع الجديد المتشكل اليوم داخل العراق المحتل. وبالفعل، فإن الموقف الشعبي يبدو اكثر عنفونا وجذرية وواقعية من مواقف النخب. وإذا ما امكن للمراقب او المحلل، ان ينزع القشرة الرقيقة التي تحيط بالمشهد السياسي اليوم، وان يقوم بتنحيتها جانبا من اجل رؤية المنظر الحقيقي كاملا، فإنه سوقف يلاحظ، وياللغرابة، ان الشعب موحدّ في نظرته للإحتلال. السياسيّون الإنتهازيون واللصوص الجدد؛ وحدهم مَنْ يرّوج للإحتلال ومحاسنه. وهم مَنْ يقفون وراء اشاعة اصطلاح (المثلث السنيّ) بما يعني ان المقاومة محصورة في نطاق ضيّق يخصّ طائفة بعينها. وهذا بكل تأكيد توصيف زائف للواقع. فحتى الذين لم يشتركوا في اعمال مقاومة الإحتلال بصورة مباشرة، هم في الواقع من اصلب المقاومين للإحتلال والرافضين له. وحدها (طبقة) السياسيين الفاسدين هي التي يدور في وسطها سجال حول الإحتلال حيث ينقسمون بين مؤيد ومعارض؛ بينما يقف الشعب كله موقفا رافضا ومقاوما.
﴿ 2 ﴾
منذ ان وصلت بغداد ورحت اتجول فيها، قاصدا زيارة ولقاء الأصدقاء والمعارف، وبالطبع مواصلة الحوار مع الشخصيات والقوى السياسية، وأنا أتابع الطريقة التي كان يجري فيها تحويل العاصمة التاريخية للإسلام الي مدينة غريبة حتي عن سكانها.
لقد تحولت بغداد الى مدينة جدران كونكريتيّة مرعبة، تعزل أو تفصل وبشكل عشوائي، احياء بأكملها عن بعضها، أو تقطَّع أو صال الشوارع الكبيرة والصغيرة، وتحويلها الى جزر منفصلة حتى ليستحيل على سائقي السيارات المرور الى أقرب نقطة، من دون الإنتظار طويلا عند الحواجز، او استخدام طرق جانبية بعيدة. وكان لافتا بصورة مثيرة، بالنسبة لي ربما بسبب خبرتي القديمة كمهندس أن أشاهد هذه الجدران وهي ُتنصبُ في شوارع بغداد وفي فلسطين المحتلة، من قبل الشركة الأمريكية نفسها. وبالفعل، فإن الشركة الأمريكية التي تصنّع الألواح الكونكريتيّة العازلة، التي يتألف منها جدار الفصل العنصري في فلسطين، هي ذاتها الشركة التي تعاقدت معها قوات الإحتلال، لتصنيع الكتل الكونكريتيّة في شوارع بغداد، التصميم ذاته والمواد ذاتها.
وها هو جدار بغداد العازل يطوّق بغداد من وسطها، ويتلوى كالثعبان في شوارعها. لم تبق مؤسسة عامة او موقع لنقطة تفتيش، وحتى مقرات أحزاب الإحتلال، وبكل تأكيد الفنادق والوزارات، لم تطوّقه جدران العزل هذه. وها أنا اتجول وأرى الأسلاك الشائكة، فضلا عن الكتل الكونكريتية وقد انتشرت في مكان. كانوا يحيطون الجدران العازلة بالأسلاك الشائكة والدوشمات المليئة بالتراب. وفي بعض المواقع كالجسور والساحات - مثلا- كانوا يُغرقون المنطقة القريبة من ايّ نقطة امريكية، بالمياه التي يجري ضخها، بحيث يتحول الوضع الي ما يشبه الخندق نحو مئة متر، وذلك من اجل منع اقتراب المقاومين. قطعوا الأشجار وجرّفوا المزروعات والحقول والبساتين. وكان أكثر ما أثار ألمي وحزني، منظر طريق مطار بغداد، الذي كان ذات يوم مثالا لجمال الشارع، فقد قطعوا كل اشجار النخيل المرصوفة على جانبيه، بل وقاموا بإضرام النيران فيها.
وحين تسني لي المرور بالقرب من منطقة كرادة مريم، حيث المجمّع الأمريكي للقيادة العسكرية والمدنية في القصر الجمهوري، هالني ما رأيت. فسكان المنطقة كانوا لا يستطيعون العودة الى منازلهم او الخروج منها، إلا بعد خضوعهم لعمليات تفتيش صارمة. بل ان الأمريكيين فرضوا عليهم استخدام هوّيات خاصة للتعريف بهم. رأيت كرادة مريم وقد تحولت الى معسكر اعتقال جماعي حقيقي. وهذا ما تكررّ امامي في ديالي. حيث طبق الأمريكيون نظام تحويل المناطق السكنية الى معسكرات اعتقال جماعية، بحيث شملت مناطق بأكملها في بعقوبة، وباتت أحياء بكاملها اشبه بالمُنعزلات التي يستخدم السكان فيها بطاقات هوية خاصة، كما هو الحال مع الأحياء القريبة من مطار الفارس ومطار بغداد.
آنئذٍ تبدت صورة العراق الجديد وكأنها استنساخ لصورة فلسطين، حيث تتلوى الجدران العازلة في بطن بغداد طول اوعرضا كالثعابين. والى هذا كله رأيت عمليات الترحيل الجماعي لسكان احياء بأكملها في الجانب الخلفي من مطار بغداد بعد ان تمّ تجريف كل اشجار النخيل هناك، وتدمير الحقول والمزروعات والبساتين، بحجة ان المقاومة تستخدم هذه الأماكن لتسديد ضربات صاروخية للمواقع الأمريكية. مناظر تدمير الحياة اليومية للناس في كل مكان. تدمير املاكهم صار امرا مألوفا وشائعا. انها سياسة ممُنهجة ومدروسة. وهذا واضح وجليّ تماما في الكثير من الحالات، فعندما تشهد بغداد عمليات قتالية، أو عمليات قصف صاروخي او بمدافع المورتر على مقرات الأحتلال، فإن بغداد ُتعاقب بقطع الكهرباء عنها بالكامل ولمدة 48 ساعة متواصلة. وأذكر ان شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الماضي شهد انقطاعا في الكهرباء شبه متواصل او لمرات متتالية. في البداية اعتقد الناس ان الأمر يتعلق بعطل في الموّلدات. ولكن، ومع تكرار حالات القطع الفجائي للكهرباء أيقن الناس ان الأمر يتعلق بمسألة عقاب جماعي.
ميليشيات وإحتلال
كانت بغداد تتحول بفعل سياسة العقاب الجماعي هذه، الى مدينة اشباح تغرق في الظلام والفوضي والخوف الجماعي. وممّا فاقم من كآبة هذه الصورة، ان الجثث كانت تنتشر في كل مكان ايضا. ما من يومٍ يمرّ من دون رؤية حوادث قتل مُريعة هنا او هناك. الأنباء عن حوادث القتل التي تقع في المدينة تتوالي. ليست عمليات القتل هذه مجرد حوادث عرضية، بل هي عمليات تصفية منهجية ومدبرّة، تقوم بها ميليشيات مسلحة تابعة لأحزاب الإحتلال ضد اساتذة جامعات واطباء ومهندسين ومحامين، من ابناء الشيعة والسنّة علي حدٍّ سواء بدعاوى انتمائهم لحزب البعث. في هذا النطاق تشير التقديرات، ومن مختلف المصادر الموثوقة، الى ان ما بين 2500 - 3000 قتيل سقطوا حتى الآن جرّاء التصفيات الوحشيّة هذه. ان ميليشيات المجلس الأعلى للثورة الإسلامية جماعة الحكيم والمُسمّاة فيلق بدر لا يمكنها ان تبريء نفسها من تهمة ارتكاب هذه الجرائم، ففي الأول من رمضان المصادف 26 تشرين الاول (اكتوبر) وخلال تظاهرة علنية اعلن صدر الدين القبانجي ممثل المجلس وعضو قيادته، رسميا عن بدء الحملة الكبري - حسب تعبيره- لإجتثاث وتصفية المخربين فكرا وبشرا. وللتدليل على ان هذا الإضطهاد الجماعي يطال الجميع شيعة وسنّة، ان هناك اليوم مئات من العائلات الشيعية، فرّت من مناطقها في جنوب العراق. لقد هربت من جنون القتل هذا، وبعضها وصل الى الفلوجة والرمادي طلبا للنجاة. والأمر في الواقع، وكما اتضح لي عيانيّا لا يتعلق بالبعثيين، بل بعموم الوطنيين من ابناء الشيعة الذين اضطرّوا للفرار من مناطق سكناهم في الجنوب، مثل الكوت والعمارة والناصرية والحلة، والتي فرضت فيها ميليشيات المجلس الأعلى جماعة الحكيم والمخابرات الإيرانية والكويتية، اجواء قتل وترهيب ورعب وتصفيات جسدية. وأذكر انني في اليوم السابق لعودتي من الفلوجة الى بغداد، قصدت مكتب أحد المهندسين من ابناء عشيرة البوعلوان. كان موعدنا في مكتبه الذي يطلّ على الشارع الرئيس في الرمادي. كنا بعد قليل من وصولي نشرب الشاي ونتطلع من الواجهة الزجاجية الى الشارع، عندما شاهدنا ثلاث سيارات نقل مليئة بالأطفال والنساء والشيوخ. اتجهت السيارات صوب المكتب بعد ان شاهدونا نجلس هناك نشرب الشاي. كانوا مُغبرّين مُتعبين يرتجفون هلعا. قالوا: نحن غرباء هنا. ونريد استئجار منزل؟ هل يمكنكم تقديم المساعدة لنا. نظرت الى الرجال والأطفال وقرأت في اعين الفزع. اردف احد الرجال قائلا وهو يشرح لنا طلب المساعدة التي يرغب بها: هربنا من الموت وعمليات القتل التي تقوم بها ميليشيات الحكيم.
وفي الحال بادر مضيفنّا الشاب المهندس الى الترحيب بهم وطمأنتهم قائلا: اهلا بكم. سوف تنزلون ضيوفا علينا.
في ما بعد، وخلال الفترات المتقطعة التي كنت ازور فيها الرمادي والفلوجة وحتى حديثة، رأيت احياء كاملة تنشأ هناك يقطنها الفارون من جحيم ميليشيات الحكيم والمخابرات الإيرانية والكويتية. وفي بغداد نفسها، علمت ان اعدادا كبيرة من هذه العائلات وصلت العاصمة قاصدة منازل الأقرباء طلبا للحماية. هذا الوضع حقيقي تماما ويمكن رؤيته والتعرّف على ما يماثله من حالات، يضطرّ فيها الوطنيون الرافضون للإحتلال من ابناء الشيعة الى طلب الحماية، والإقامة في المناطق التي لا سيطرة فيها لميليشيات الحكيم. كانت هذه الصورة كافية بالنسبة لي، لرسم الأجواء الحقيقية التي اشاعتها الميليشيات المسلحة في الجنوب. انها اجواء تصفيات وتقتيل وفوضي وتخريب وتحطيم وتدمير لحياة الآلاف من البشر بحجة انهم من البعثيين، بينما تؤكد الوقائع ان الكثير من هؤلاء لم يكونوا بعثيين، بل من ابناء الشيعة الرافضين للإحتلال. وبمقدار ما يعكس هذا الواقع، درجة الفوضى التي اشاعتها الميليشيات المسلحة، فإنها تعكس وبالقدر ذاته المعنى الحقيقي لسياسة اجتثاث البعث. انها سياسة تدميرية تطاول أسرا بريئة، وأفراد الا ذنب لهم سوى موقفهم الوطني الرافض للإحتلال.
الي ايران... كل شيء
لكن سياسة التقتيل والترهيب هذه، ليست ولم تكن في الواقع سوى استطراد في سياسة أعمّ، كانت ملامحها قد اتضحت منذ اللحظات الأولى لسقوط بغداد، حيث بدأت الفوضى ودبّ الخراب وانتشرت عمليات نهب وتفكيك البنية التحتية. وإذا ما عاد المرء بذاكرته الي الساعات الأولى الرهيبة، التي اعقبت سقوط بغداد، فإنه سيجد رابطة وثيقة بين النهب وعمليات القتل والتصفيات. لقد كانت سياسة ممُنهجة قُصد منها إثارة الفوضى والرعب. وحين رحت اتجول في بغداد شارعا شارعا وحيّا حيّا، ارتطمت نظراتي الحزينة والحيرى بمشاهد بنايات محترقة او مدمرّة او منهوبة، وبمناظر بشر مذهولين كانوا يتحركون في مدينة مُحطمّة. تحولت بغداد بعد ساعات من سقوطها الي مدينة بنايات خاوية او مدمرة، البشر فيها ليسوا سوى خطى حزينة وآلام ودموع. انهم يسيرون بتثاقل وكأنهم يحملون اثقال الدنيا كلها. ليس ثمة من منظر مثير للألم أكثر من منظر مدينة انهكها الدمار وحطم الحزن المرّ سكانها. ومع ذلك، فإن المرء ليعجب وهو يتجول في بغداد ومدن العراق كله، كيف ان الناس هنا مازالوا يملكون طاقة خلاقة لا نظير لها، على مقاومة الموت والخراب والنسيان. ان اصرارهم على الحياة يطفح في العيون. وحكاية النهب هذه، التي لم ترو على نحو دقيق بعد، من اجل تبيان الحقيقة عن أبطالها ، وكذلك عن مسؤولية والأطراف التي شاركت فيها وشجعتها وباركتها، وكيف قام اللصوص باستكمال نتائج القصف والتدمير، من خلال عمليات تفكيك ونهب الممُتلكات العامة والخاصة، لتستحق ان تروى مرات ومرات. لم اشاهد طوال الفترة التي مكثت فيها في البلاد ايّ أثر لبنية تحتيّة، لا مصانع ولا مؤسسات. كل المُعدّات الإنشائية الثقيلة والمصانع الحربية والمدنية والمكائن الثقيلة فككّت وُنهبت ونقلت الى ايران. باعها الأكراد لإيران بأسعار بخسة، سوية مع جماعة الحكيم وحزب الدعوة. مئات الألوف من السيارات والشاحنات وشاحنات الأحواض والكومبيوترات تمّ تهريبها الى ايران. وجرى افراغ مخازن حبوب الحنطة والشعير والعدس وتمّ تحميلها لترسل عبر الحدود. وحتى اليوم لاتزال بعض الأماكن في شمال العراق منطقة كلار مزدحمة بالآف السيارات المُحتجزة او التي تنتظر دورها للدخول الى ايران. بعد شهرين من وصولي تقريبا في اكتوبر كنت اتجه صوب ابوغريب للقاء بعض الأصدقاء والأخوة. في الطريق من بغداد عبر الكرخ شاهدت ما يشبه مؤسسة او مصنعا لم يتبق منه سوى السياج الخارجي وبقايا بناء. قال لي مرافقي: تعال وشاهد هذا المكان. اتعرف عنه شيئا؟ سألني. فقلت: لا. ثم مشيت خطوات اخرى وانا اتبعه لمعاينة المكان. خُيَّل إليَّ ان المكان هو ساحة وقوف سيارات. كان خاويا تماما. قال مرافقي بلهجة حزينة: ذات يوم كان هذا المكان مصنعا حربيا. انه لتصنيع محركات الدبابات.؟ وحين راحت نظراتي تتوزع فوق الأرض الجرداء علّها تلمح أثر المصنع، سمعت مرافقي يقول بعينين دامعتين: نهبوه. تمّ تفكيكه ليرسل الى ايران.
كان قرار حلّ الجيش هو اشارة الإنطلاق الحقيقية لبدء عمليات نهب جديدة. القليلون فقط يدركون هذه الحقيقة خارج العراق. أجل. كانت هناك سلسلة جديدة من عمليات النهب التي بدأت فور اعلان بول بريمر قرار حل الجيش العراقي. ولذلك يشاهد المرء وهو يتجول في البلاد آثار نهب من نوع آخر لم ُترو قصته بعد: نهب معسكرات الجيش. كل شيء في المؤسسة العسكرية تمّ نهبه، المصانع العسكرية والحديد والدبابات والمدافع والسيارات. تساءلت وأنا اتابع فصول الحكاية التي يرويها مرافقي عن نهب مؤسسة تصنيع محركات الدبابات في منطقة الكرخ ببغداد ُترى اين ذهبت مئات آلاف السيارات العسكرية؟ لم تبق سيارة واحدة. ولكم ان تتخيلوا كم سيارة كان الجيش العراقي يملك؟ هذه عينة واحدة لا أكثر من عينات النهب الجديد الذي انطلق مع قرار حلّ الجيش.
في هذا السياق، لابد من التوقف عند الأساليب التي اتبعتها قوات الإحتلال في تشكيل قوات الأمن الداخلي والشرطة. لقد تبيّن - حسب الصحافة التي يموّلها بريمر وقوات الإحتلال- ان ما بين 58 - 200 من ضباط الشرطة الذين سلمتهم قوات الإحتلال مسؤوليات حفظ الأمن في بغداد، هم من عتاة القتلة والمجرمين واللصوص. هؤلاء، وفور اعلان سلطات الإحتلال عن تشكيل قوات امن داخلي، سارعوا الى تقديم هوّيات مزورّة وشهادات مزورّة لإثبات انهم كانوا ضباطا في الجيش العراقي، وان النظام السابق قام بطردهم من الخدمة العسكرية. ومن المفارقات المثيرة ان الأمريكيين الذين يجهلون العراق - كما تبيّن بوضوح- اكتشفوا حكاية تزوير الوثائق هذه، بعد ان نبههم بعض العراقيين الى ان رتبة زعيم ركن التي زعم احد المتقدمين للشرطة الجديدة، انه يحملها، هي رتبة لا وجود لها في سلك الشرطة العراقية وانها رتبة عسكرية تخصّ الجيش. ولذلك فليس امرا مثيرا ان يتناقل العراقيون قصصا عن تورط الشرطة الجديدة في اعمال نهب وسرقات، فالكثير من هؤلاء هم في الأصل من اللصوص المحترفين.
في ظل هذه الفوضى العارمة، يشتكي العراقيون من قيام الجنود الأمريكيين بسرقة مقتنياتهم ومدخراتهم اثناء المداهمات. الحديث الآن يتركز على سرقات بلغت حدود 5 مليارات دينار عراقي، تمت مصادرتها من منازل مئات الآلاف من العراقيين، الذين تعرضوا للمداهمات والتفتيش، كما يدور عن سرقات للحلي والذهب والمصوغات بلغت اكثر من 17 قطعة.
خطف واغتصاب وديناميت
بيد ان حكاية النهب، ليست ولم تكن سوى جزء من جريمة كبرى مسكوت عنه: ان جرائم الإحتلال التي لم يطلع عليها احد بعد، عبر وسائل الإعلام والفضائيات، لتبدو أكبر وأعنف وأشدّ مأسوّية مما يمكن للمرء ان يفعله لأجل روايتها بصورة مقبولة. ابتداء من 29 آب (اغسطس) كانت هناك حرب حقيقية اخرى في العراق. القليلون فقط خارج العراق تسنى لهم سماع بعض تفاصيلها الشحيحة. هذه الحرب غير المُعلنة بدأت بإستخدام الطائرات الحربية من طراز F.16 وبالقاء قنابل زنة نصف طن طاولت مناطق السيّديّة في بغداد، والفلوجة والخالدية وتكريت والدور والضلوعية، بحجّة قصف مواقع المقاومة. هذا المشهد كان يتكررّ يوميا. عاد الطيران الحربي للعمل وكأنّ الحرب بدأت للتوّ. أدّى القصف حسب الشهادات التي أفاد بها السكان، وتمكنتُ من تسجيلها في مختلف المناطق المشمولة بالقصف، الى تدمير اكثر من 1120 منزلا، تتوزع على الخالدية والمحمودية وبلد والضلوعية وتكريت والقائم وبغداد والموصل وبعقوبة والحويجة والدور. في يوم واحد فقط، وفي قرية دجلة الريفيّة التابعة لقضاء بلد، جرى يوم 16 تشرين الثاني (نوفمبر) وحده تفجير خمسة عشر منزلا بواسطة الديناميت، ومن دون السماح للسكان بأخذ حاجياتهم واوراقهم. حتى الأطفال منعوا من اخذ حقائبهم المدرسيّة. ما أشبه هذه التفجيرات بما يحدث في فلسطين المحتلة؟ انه الإسلوب المفضّل نفسه. في هذا اليوم تناهت الى اسماعي انباء مماثلة عن تفجيرات لمنازل مواطنين في المحمودية والخالدية. وهناك عدد مماثل نحو 1121 منزلا جرى حرقه او تفجيره من قبل الميليشيات المسلحة في النجف وكركوك والموصل واليوسفيّة والحلة. كانت الجريمة تكبر كل يوم، مع توالي القصص المرعبة عن التصفيات واحراق المنازل والإعتقالات. ان الأرقام المتداولة عن عدد المعتقلين في العراق، والتي تصرّح بها قوات الإحتلال، هي ارقام لا تقول الحقيقة أبدا، فهناك اليوم 182 ألفا من المعتقلين بين رجل وامرأة اطلق سراح البعض منهم بعد فترات تتراوح بين ثلاثة اسابيع وثلاثة اشهر. وحسب معلومات الأهالي الذين سجلوا شكاواهم عن اعتقال ذويهم، فقد تبقى في سجون الأحتلال أكثر من 42488 معتقلا يتوزعون على معتقل أم قصر الرهيب، ومعسكر البغدادي شمال هيت على الفرات، وفي معتقل الرضوانية ومعتقل مطار بغداد وسجن ابو غريب.
ضمن قائمة المعتقلين هناك اكثر من 543 امرأة و917 طفلا دون السادسة عشرة. أما الذين قضوا بفعل هستيريا الجنود، الذين كانوا يقومون بتعذيب المعتقلين - وهذا ما اعترف به جزئيا الكثير من قادة الإحتلال- فقد بلغ 512 مواطنا. هؤلاء اعدموا فعليا اثناء نوبات هستيرية اصابت جنود الإحتلال، المكلفين بتعذيب المعتقلين لإنتزاع اعترافاتهم. وقد لا يعجب المرء وهو يستمع الى قصص التعذيب الرهيبة، من أفواه الذين تعرضوا للإعتقال، أو ان يشاهد بنفسه بعض آثارها البادية للعيان، ان يعلم بوجود حالات شلل واعاقة تامة نجمت عن شدّة التعذيب، وبلغت رقما مخيفا: 920 حالة إعاقة تامة. والى هذا كله فلا يزال مصير نحو 6 الآف مواطن خطفتهم الميليشيات المسلحة مجهولا. اما حالات اغتصاب النساء والإعتداء الجنسي على القاصرين والأطفال، على ايدي جنود الإحتلال امريكان. بريطانيون. بولونيون. طليان والميليشيات المسلحة كذلك، فإنها تثير الفزع بالفعل، فقد بلغ عدد النساء العراقيات اللواتي تعرضّن للإغتصاب نحو 2000 امرأة، بينما تجاوز عدد الأطفال الذين تعرضوا للإعتداء الجنسي 550 طفلا. يكفي القول ان هناك 32 حالة اعتداء جنسي ضد الأطفال، مسجلة رسميا ضد الجنود الأمريكيين، و15 حالة اخرى ضد الجنود البريطانيين، وتمّ فتح تحقيق رسمي بشأنها. ان بعض هؤلا كما تؤكد شهادات المواطنين والمختصين ومسؤولي دور الإيتام، اخذوا اما من مؤسسات رعاية الأيتام التي نهبت ودمرّت، او تمّ التقاطهم من الشوارع بعد ان اصبحوا مشردين. وفي حالات كثيرة، كما دّلت الوقائع، جرى تشغيل هؤلاء الضحايا في اعمال قذرة، كبيع المخدرات لحساب عصابات التهريب. وقد تسنى لي ان اشاهد بنفسي بعض هؤلاء قرب فندق فلسطين في شارع السعدون. رأيتهم هناك كأنهم اشباح هائمة، يمارسون تجارتهم الجديدة هذه لحساب المافيات الجديدة في العراق الجديد.
ثكنة النغمات الشرقية
وفي هذا الإطار يمكن للمراقب، حتى المحايد، ان يلاحظ الكيفيّة التي يجري فيها تحطيم نظام التعليم. سأعطي مثالا بسيطا عن ذلك، وهو كاف بذاته لتفسير المعنى الذي ينطوي عليه سلوك قوات الإحتلال، بل ويكفي لتوضيح الأهداف التي قبعت وراء غزو العراق ومن بينها بالطبع اهداف تتصل بميدان التعاليم: ان قوات الإحتلال تتخذ من المدارس والمعاهد التعليمية الراقية في العراق مثل معهد النفط والأقسام السكنية للطلاب الجامعيين، معسكرات وثكنات ونقاط مراقبة وتفتيش. وبكل تأكيد، فإن هذا التواجد المكثف في المدارس وتحويلها الى معسكرات، لا غرض له سوى حرمان الآلاف من العراقيين من مواصلة التعليم، بل وتحويل حياة الآلاف من الطلاب الجامعيين القادمين من المحافظات والذين يقيمون في الأقسام الداخلية الى جحيم. في الواقع لا توجد ايّ مبررات، ذات طابع تقني يخصّ استيعاب التواجد العسكري في اماكن ثابتة - كما يدعي قادة الإحتلال-، كما لا توجد ايّ احتياجات حقيقية من جانب قوات الإحتلال، لتحويل المدرسة والمعهد والقسم الداخلي الى ثكنة. كل ما في الأمر ان هذا التحويل غرضه تحطيم ايّ اساس لإستمرار الطلاب في حياتهم الدراسية. ومن هنا سيلاحظ المراقب الرابطة الخفية، بين قرارات طرد اكثر من 2350 استاذا جامعيا، ونحو 17 الف مدرس ثانوي، وبين تدمير البنية التحتية للتعليم. انها عناصر متكاملة في سياسة ممُنهجة. وللتدليل على ذلك يكفي ان اشير الى السياسة التي انتهجتها قوات الإحتلال، إزاء البنية التحتية الطبية والصحية في العراق. ان افظع صورة يمكن تخيّلها، عن الطريقة التي دمر بها الأمريكيون القطاع الصحيّ، تتجلي في ما قاموا به مع مؤسسة أكاي الشهيرة. هذه المؤسسة الوطنية اشتهرت وبرعت في صناعة الدواء. يقع مقر أكاي على الطريق الواصلة بين المدائن والصويرة. جاء الأمريكيون وطردوا العاملين في المنشأة الصحية وحوّلوا المكان كله الى ثكنة. ولكم ان تتخيلوّا منظر المعدّات الطبية والدوائية، وقد ازدحمت بمعدّات القتل التي جلبها الأمريكيون؟ الأمر ذاته ينطبق بصورة تامة على ما فعلوه مع منشأة الكندي للقاحات البيطرية في ابوغريب. لقد حوّلوها الى معسكر. إذا كان هذا هو حال الصناعات الدوائية التي تمسّ حياة العراقيين بصورة مباشرة، بحيث انهم باتوا يعانون من نقص وغلاء اسعار الأدوية، فلكم ان تتخيلوا حال التعليم والثقافة.؟ أذكر انني كنت امرّ في شارع الرشيد منطقة السنك بعد وصولي الى بغداد بفترة وجيزة، عندما استوقفني منظر مفزع. فالبيت الجميل المُطل على الشارع والمؤلف من طابقين، وكان لسنوات طويلة عنوانا من عناوين الثقافة في العراق، هو بيت العود العراقي والذي كانت تصدح فيه النغمات الشرقية، قد تحول الى مركز تفتيش تديره القوات الأمريكية. لم يجد الأمريكيون مكانا لإقامة نقطة تفتيش ثابتة في شارع الرشيد سوى بيت العود العراقي للنغمات الشرقية؟ وتساءلت مع نفسي: ايّة صلة بين النغمات الشرقية البغدادية واوركسترا الغزو الهمجية هذه؟
﴿ 3 ﴾
طوال الوقت الذي امضيته في بغداد والمدن الاخرى، منصرفا الى تطوير النقاشات التي شرعت بها مع عدد كبير من ممثلي القوى الإجتماعية والسياسية، كان عليَّ، كلما مررت ُ بحاجز او نقطة تفتيش امريكية، ان أمعن النظر في عيون أؤلئك الجنود المدججّين بالسلاح وبمشاعر هلع يصعب على المرء توصيفها. كانت نظراتهم المذعورة ترغم العابر على التحديق فيها مليّا. ومع انهم يقفون، عادة، خلف متاريس مُحصنّة ويصوّبون بنادقهم الآلية نحو العابرين، الذين كانوا يمرّون بصمت ولكن بغضب مكتوم ومُحترق، فإنهم لم يكفوا لحظة واحدة عن الصراخ في وجوه النساء والأطفال والشيوخ دون ادنى سبب. الصراخ الهستيريّ يملأ المكان، حتى ليخيّل للمرء انه في ميدان عمليات حربية اشتعلت للتوّ بالمعارك. كانوا يبدون في حالة تأهب لإطلاق النار. أصابعهم ترتجف فوق الزناد وعيونهم زائغة.
عندما تناهت الى اسماعي انباء انتحار بعض الجنود الأمريكيين، ايقنت ان تلك النظرات المذعورة، وذلك الصراخ الهستيريّ، تخفي واحدة من اسطع حقائق الوجود الامريكي: لقد بلغ الإحتلال، من منظور الأوضاع النفسيّة للجنود، ما يمكن تسميته (بالمأزق النفسي) حين تتلاشي او تنهار امكانات التعايش داخل مدينة محتلة، مع بشر يزدادون كراهية ونفورا وعداء للمحتلين. وهذا حقيقي تماما. لم يعد جنود الإحتلال قادرين على المشي بخيلاء في الشوارع، كما كان الحال في بعض المدن خلال الأيام الأولى. تبددّت الأوهام التي اشاعوها عن مهمتهم الفعلية في العراق، وبات عليهم ان يتعايشوا منذ الآن، مع خوف مزمن من الآخر. ان الأرقام التي أملكها عن عدد الجنود المنتحرين تشير الي 56 حالة (بينما يقول البنتاغون اليوم انها تزيد عن 21 حالة).
يوم 16 تشرين الأول (اكتوبر)، وحده، شهد حادث انتحار 3 من جنود النقطة العسكرية قرب سدّ (حديثة). وهذا يكفي للبرهنة على ان ثمة طابعا جماعيا لا فرديا لحالات الإنتحار. في الفلوجة كانت انباء (العصيانات) المُبطنة للأوامر بين الجنود الأمريكيين تترددّ في ارجاء المدينة، وبات أمرا شائعا ان يسمع الأهالي، او يتناقلون، انباء عن قيام جنود بإطلاق النار على أرجلهم لتفادي اوامر بإلتحاقهم، او ارسالهم الى المناطق (الخطرة) كالفلوجة والرمادي. في الفلوجة كما في الرمادي تترددّ انباء بين الأهالي عن نحو 1700 حالة يجري تصنيفها بإسم (انهيارات نفسيّة). مثل هذه الأرقام لا تبدو مثيرة بالنسبة للأهالي، الذين يعيشون في قلب مواجهة يومية مع جنود الإحتلال، فهم يعرفون بعمق معنى المأزق النفسي. ولذا يصبح منظر الجندي المُرتعد هلعا من ايّ حركة عفوية، لرجل او امرأة او طفل، ومهما كانت عرضية (كأن تخرج علبة السجائر من دون ان تنتبه الى الجندي المذعور أمامك) لا منظرا مألوفا وحسب، بل ودليلا ساطعا على نوع وطبيعة الإنهيارات النفسية المؤديّة الى الإنتحار.
يوم صادفت (مهرّبا وطنيّا)؟
الى جانب انباء الإنتحار هذه، تناهت الى اسماعي في اكثر من مدينة، اخبار مثيرة عن عمليات فرار حصلت في بعض الوحدات العسكرية الأمريكية. وأذكر انني كنت في الرمادي عندما صادفت رجلا في مجلس عام (علمت في ما بعد انه مهرّب). بادرني الرجل الى القول بلهجة احتجاجية: لماذا تصرّون على تسميتي (بالمهرّب)؟ أنا مثلكم اخدم وطني ومهمتي لا غبار عليها؟ كان السؤال مباغتا ومفاجئا، فأنا لا اعرف الرجل ولم يسبق لي ان تبادلت معه الحديث. ولم يكن بالطبع امرا مفهوما، بالنسبة لي او للجالسين، مثل هذا الإدعاء الذي يخالف المنطق. ومع ذلك قادني الفضول الى الإصغاء دون تعليق الى مرافعته الدفاعية امام الجالسين. قال: انتم تقولون عني انني مهرّب؟ حسنا. ولكنني اتقاضي لقاء هذه العمل الوطني 400 دولار امريكي عن كل جندي اقوم بتهريبه. بل واحصل من الجنود عادة على بنادقهم وملابسهم. لا يكلفني هذا العمل سوى تزويد الجندي الراغب بالفرار بملابس (بدوية) ثم اقوم بإخراجه من الوطن. اليس هذا من الأعمال الوطنية؟. قهقه الحاضرون وهم يستمعون الى مرافعة المهرّب (الوطني) بينما رحت استعيدُ قصصا مماثلة عن عمليات تهريب رواها لي أهالي الإنبار. واحدة من هذه القصص أثارت حفيظة رجال القبائل وعدّوها تجسيدا (للغدر) ولم يتسامحوا، قط، مع بطلها. قالوا لي انهم نددّوا بسلوك احد المهربين من البدو، لأنه جمع نحو 43 جنديا امريكيا وخرج بهم ليلا. ولكنه ما ان بلغ نقطة بعيدة في البادية الموحشة، حتى طلب اليهم انتظاره في موضع محددّ من اجل ان يستدعي احد الأدلاء. ولكنه وبدلا من ذلك ذهب لإعطاء اشارة تلفونية للأمريكيين في الرمادي بوجود (معسكر للمجاهدين العرب). وفي الحال جاءت الطائرات المروحية الأمريكية وقامت بقصف المكان.
مصدر الإحتجاج على هذا السلوك، والذي تردد امامي، يكمن هنا: مهما يكن من امر، فإن البطولة والوطنية لا تستقيمان مع قيم (الغدر) وان سمة ومزيّة الفروسية هما التقيّد بالقواعد الأخلاقية حتى في الصراع مع العدو.
الأباتشي تسهر في سماء الفلوجة
اريد - في هذا السياق- ان اتوقف قليلا أمام طبيعة التطور الحاصل في تكتيكات المقاومة واشكالها الجديدة. يتلازم الخط التصاعدي لأعمال المقاومة مع تطور حقيقي في نوعية العمليات، ونوعية الأسلحة المستخدمة فيها، وهذا امر هام للغاية، لأنه يوضح آليات تطور المجابهة مع قوات الإحتلال على الصعيد التكتيكي. حتى نوعية المتفجرّات أضحت في الآونة الأخيرة أكثر تطورا من الناحية التقنية. بيد ان هذا التحسّن في أداء وتكتيكات المقاومة، ترافق مع تعاظم اشكال التعتيم الإعلامي على العمليات. في كل يوم هناك ما بين 45 - 60 عملية يوميّا، ولكن وكالات الأنباء والفضائيات لا تنقل سوى انباء مقتضبة وقليلة. بعض العمليات تستمر سبع ساعات متواصلة كما حدث في الدورة (ببغداد) والخالدية والفلوجة وفي منطقة القائم على الحدود مع سورية. في منطقة القائم اسفرت احدى المعارك عن قتل عشرات الجنود واسر ثلاثة من الضباط. اثر هذا الحدث قامت القوات الأمريكية بعزل (القائم) عن العالم ابتداء من يوم 15 حتى 29 تشرين الثاني (نوفمبر)، وقامت بقصفها وتفتيشها بيتا بيتا. هذا عينه ما حدث للفلوجة عندما قصفها الأمريكيون يوم 8 و11 من الشهر نفسه بواسطة مدفعية الميدالن وبالصواريخ، وذلك بعد عملية ضخمة نفذتها المقاومة.
في تلك الليلة كنت في منزل أحد أقاربي. وصلت الفلوجة صباحا وقررت المبيت فيها للقاء بعض الشخصيات في اليوم التالي. في الساعة الواحدة ليلا كنا نتأهب للنوم عندما بدأت طائرات الأباتشي تحلق بكثافة في سماء المدينة. على امتداد الساعات التالية حتى الفجر لم يتوقف القصف الجوي. في الصباح ذهبت لتفقد بعض المواقع التي تعرضت للقصف. كانت قرية (السُجر) واحدة من ضحايا التدمير والقصف الجوي: خمسة من المواطنين الابرياء الذين استهدفهم القصف الجنوني والعشوائي كانوا صرعي. وعندما سألت عمّا إذا كان من بينهم بعض المقاومين، كما تزعم قوات الإحتلال، تلقيت رددودا قاطعة بأنهم من ابناء القرية البسطاء وانهم قتلوا وهم ونائمون. بعد يومين من هذه المجزرة ردّت المقاومة بمعركة ضخمة خارج الفلوجة (صداميّة الفلوجة). كانت القوات الأمريكية قد قامت بنقل المعتقلين لديها من شيوخ العشائر ورجال الدين من معسكرها في (صدامية الفلوجة) الى معتقل (ام قصر) في البصرة. ويبدو ان رجال المقاومة تأكدوا من نقل المعتقلين. ولذا ردّوا على جريمة قرية (السُجر) بقصف معسكر الأمريكيين. كان عدد المهاجمين 70 شخصا. وهذا رقم كبير يوضح المدى الذي بلغه تنظيم المقاومة، والمرونة العالية التي اصبحت تتمتع بها على صعيد تحريك المجموعات الفتالية. في هذه المعركة التي كان مسرحها ما يُسمى بالحيّ الصناعي في الفلوجة، قام الأمريكيون بزج اعدد اكبر من جنودهم. مع بزوغ الفجر عادوا ادراجهم تاركين وراءهم 13 آلية محترقة.
بيد ان أكثر ما يثير حنق وغضب العراقيين، (وهذا ما سوف تكون له نتائج فعلية على صعيد تعاظم اشكال الرفض الشعبي) انما هو عمليات القتل المجانية والعشوائية التي تجري عند الحواجز ونقاط التفتيش الأمريكية. لا يكاد يمرّ يوم من دون انباء عن مصرع عائلات بأكملها او أفراد ابرياء، لم يسمعوا او يفهموا اوامر الجنود بالتوقف، وفي احيان كثيرة من دون وجود ايّ سبب. وكمثال على ذلك عمليات اطلاق النار على السيارات المدنية من دون اسباب. وعندما تقع هجمات للمقاومة في شارع عام او وسط المدن، فإن الأمريكيين يبادرون الى اطلاق النار عشوائيا، بهدف ترويع السكان والحاق اكبر قدر من الأذي بهم. ان سجلات الطبّ العدلي في العراق تقدّر - كما اخبرني احد العاملين هناك- عدد القتلى بين المارّة بنحو 50 عراقيا راحوا ضحية الرصاص الطائش الذي يطلقه الجنود الأمريكيون. وبلغ الإستهتار بأرواح العراقيين درجة لا تصدق، فقوات الأحتلال باتت ترفض حتى التشخيص الطبي لأسباب الوفيات، من اجل ان لا يتمكن الأطباء من تحديد نوعية الرصاص. اكثر من ذلك ان الأمريكيين صاروا يتسترّون على اعداد الأطفال الذين يقتلون اثناء المداهمات الليلية.
الشيعة في قلب المقاومة
ليس صحيحا ما يُشاع في بعض وسائل الإعلام والتحليلات الصحافية، عن انعزال الشيعة أو تمنعهم عن المقاومة، أو ان لا علاقة لهم بها. الوقائع تؤكد انهم جزء عضويّ من المقاومة وهم موجودون فيها. بيد ان نشاطات المقاومة في الجنوب لم تشهد تصاعدا ممُاثلا للتصاعد في مناطق اخرى من العراق، لا بسبب امتناع الشيعة كما يُزعم، بل بسبب وجود الميليشيات المُسلحة التي تأتمر بأوامر الإيرانيين وتنسق مع الأمريكيين. هذه المليشيات المتواطئة مع الإحتلال، هي التي تشيع جوّا من الترويع والتقتيل في الجنوب وتخلق اسبابا لأنحسار العمليات ضد الإحتلال هناك. ومع هذا، فقد بدأت تتتالي منذ بعض الوقت، انباء عن عمليات جريئة في الصويرة والكوت والعمارة والبصرة وسوق الشيوخ والديوانية وأطراف الحلة. وأخيرا بدأنا نسمع عن كربلاء. بعد وصولي بأسابيع قليلة ذهب وفد كبير من العشائر السنيّة (من زوبع والدليم والعُبيد والجبور) للقاء عشائر الشيعة في الناصرية. مكث الوفد ثلاثة ايام هناك. ما يلفت الإنتباه في الأفكار والمواقف التي ترددّت اثناء النقاشات، انها تركزت عند نقطة اجماع مثيرة للدهشة حول أهمية الحفاظ على زخم المقاومة، وتطوير امتداداتها الجغرافية والبشرية بحيث تشمل البلاد كلها. قالوا: ستسمعون ما يسرّكم. كل قرية وكل مدينة في الجنوب ستكون (فلوجة) أخرى. وهذا عينه ما لمسته في تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الماضي عندما حضرت لقاء لشيوخ العشائر في (رابطة عشائر العراق) ببغداد. حين جلسنا في مضيف الشيخ مشعان الضاري لفت انتباهي كلام عميق وبعيد الدلالات، صدر عن أحد الشيوخ العشائر الكبيرة والقوية في الجنوب. قال الشيخ بلهجة الواثق: هذا احتلال يهودي لبلادنا. سنقاومهم ونقاتلهم ولدينا سلاح كثير.
ان لمن المدهش، حقا، رؤية هذا القدر من اليقظة والتنبّه، في اوساط الناس البسطاء، للدور الخفيّ الذي يلعبه الكيان الصهيوني في اطار الإحتلال. ومن غير شكّ، فإن التأكيد القاطع الذي يسمعه المرء، بأن هذا الإحتلال هو في جوهره واهدافه البعيدة ليس سوى احتلال اسرائيلي، انما يشير بوضوح تام الى مغزى اليقظة والتنبّه والفطنة الشعبية. وعلى العكس مما يترددّ من افكار ومواقف، في اوساط شرائح من الطبقة السياسية الفاسدة، فإن العراقيين في غالبيتهم يدركون وبعمق، ان الصهيونية هي التي دبرّت وقادت الحرب بأدوات امريكية. الناس هنا يُدّللون لك على ما يقولون بجملة من الوقائع. مثلا. انهم يتساءلون عن سرّ اهتمام قوات الإحتلال ببعض المواقع التي يُزعم ان لها صلة (بالتراث اليهودي)؟ كما يلفتون النظر الى ان هناك ثلاث سيارات نقل كبيرة، تحمل كل منها 50 راكبا تتحرك من اسرائيل نحو العراق اسبوعيا، وتدخل بحماية قوات الإحتلال عبر الحدود الغربية. هذه الزيارات السرّية، تتجه مباشرة الى مناطق (الكفل) وبابل وهيت والعزير (في محافظة العمارة). والى جانب هذه الحركة البريّة، هناك عمليات نقل جوي لأفواج من السيّاح اليهود عبر مطار بغداد، حيث ثلاث طائرات تقوم اسبوعيا برحلات منتظمة بين بغداد وتل ابيب. هذا فضلا عن معلومات مؤكدة عن عمليات امداد بالمواد الغذائية للجيش الامريكي يتولاها الكيان الصهيوني مباشرة. وكما يترددّ هنا في اوساط الناس البسطاء، وتؤكده المعلومات المتوفرة، فإن الوجود الإسرائيلي أصبح الآن أكبر من (دولة) او (سفارة). الموساد يسرح ويمرح تحت اغطية رجال اعمال او شركات.
ايرانيون وكويتيون وموساد
ان مشاعر الخوف والقلق التي تنتاب العراقيين بكل طوائفهم، من التغلغل الإسرائيلي المُغطيّ والمحمي من قبل القوات الأمريكية، ومن خلال واجهات تجارية وشركات لشراء العقارات، لا يوازيه سوى مشاعر الخوف والقلق ذاتها من تنامي النفوذ الإيراني. ان واحدة من مظاهر هذا التغلغل يمكن ان تتجلي امام زائر بغداد، وبصورة عابرة، في انتشار صور خامنئي. ما فاجأ الإيرانيين وأثار حيرتهم ان ابناء الشيعة في الكاظمية والحرية والشعلة والثورة، هم الذين بادروا الى تمزيق صور خامنئي، بينما راحوا يرفعون كل يوم صور صادق الصدر. هذا يُدّلل على نحو لا تخطئه العين، على حقيقة ردود الفعل التي ولدّها التغلغل الإيراني، فالشيعة العراقيون أكدّوا عراقيتهم الأصيلة، في مواجهة محاولات ايران بسط نفوذها السياسي والثقافي في العراق المحتل، بالتواطؤ مع قوات الإحتلال الأمريكي. وبينما تنتشر مقرات الموساد الإسرائيلي في كويسنجق والسليمانية (ادارة الطالباني) وفي المناطق الحدودية المحاذية لأيران، فإن مقرات جهاز المخابرات الإيراني (اطلاعات) اقيمت هناك أيضا وجنبا الي جنب، في مظهر واحد من مظاهر التعايش بين النفوذين. حتى في اوساط التجار الشيعة يمكن للمرء ان يلمس نوع ردود الأفعال تجاه هذا التغلغل. انهم يعبرّون عن رفضهم للإحتلال الأمريكي وفي الآن ذاته مقتهم للهيمنة الإيرانية. ومن غير شكّ، فإن استغلال ايران للفوضى التي اشاعها الإحتلال الأمريكي، لا يبدو قابلا للتبرير تحت ايّ ذريعة، لأنه استغلال مفضوح النوايا والأغراض. والى جانب هذا الثنائي ثمة الكويتيون. هناك ثلاثة آلاف من جهاز المخابرات الكويتي، تسربوا الى المناطق الجنوبية، وهم ينسقون بشكل كامل مع الإيرانيين في اشاعة الفوضى وتدبير عمليات الإغتيال.
بعثيون وناصريون ويساريون واسلاميون
اريد ان اتوقف قليلا، هنا، ومرة اخرى عند بعض التصورات الرائجة والشائعة، والى ما يترددّ من تحليلات وتكهنات عن بنية المقاومة أو تركيبتها السياسية والإجتماعية. ان بعضا مّما يقال في وسائل الإعلام والصحافة، لا يستند الى ارضية حقيقية بأكثر مما يستند الى مادة دعائية رخيصة يروجها الإعلام الغربي. الكثير من التحليلات والتكهنات يذهب الى ما هو أقل من توصيف الحقيقة.
ان هذا الإجماع الشعبي الذي يتشكل اليوم من حول المقاومة، ليس نتاج ردود أفعال كما يُزعم، بل هو تجسيد فعلي لمعنى الوطنية العراقية. انطلقت المقاومة، في الأساس، من تيارين سياسييّن: تيار حزب البعث وتيار الدولة. وهذا امر منطقي، في ظروف مثل ظروف العراق، حيث القوة الأكثر تنظيما هي الحزب الحاكم. ولكن، ومع تسارع وتيرة الأعمال الأولى للمقاومة، انتظم في اطارها عدد كبير من الذين لم يكونوا يؤلفون حزبا سياسيّا.. هذه هي الصورة الأولى للمقاومة كما بدأت وانطلقت بعد سقوط بغداد. بعد وقت قصير ومع اولى الإشارات، عن معارك وضربات ضد قوات الإحتلال، حدث تغيرّ جوهري وهام للغاية في تركيبة المقاومة، إذ التحقت بها جماعات قومية ومستقلة ويساريون وناصريون والآلآف من الشباب المستقلين، الذين لم يُعرف عنهم ايّ نشاط سياسي من قبل. بهذا المعنى، حدث التغيّر الأهم في تركيبة المقاومة في الأيام الأولى لإنطلاقها، وتبدّل طابعها وتحوّله الى طابع شعبي عراقي خالص، مع دخول سائر القوى والمجموعات الوطنية الأخري. أكثر الأسئلة المُثارة اهمية تدور -اليوم- حول النقطة التالية: هل لدى المقاومة، بالفعل، استراتيجية سياسية وعسكرية تكفل لها الإستمرارية، والقدرة على تحديد أهدافها وتطوير مبادراتها؟ نسمع احيانا من بعض المحللين، هنا وهناك في الفضائيات والصحافة، مزاعم عن افتقاد المقاومة لخطاب سياسي، او انها لا تملك برنامجا سياسيّا. هذا الزعم في الواقع لا أساس له.
وعلى العكس من هذه التصوّرات، فإن للمقاومة برنامجا واضحا كل الوضوح. العراقيون مثلا يطروحون الكثير من الأسئلة، بما فيها تلك التي تخصّ المقاومة واهدافها وامكاناتها: هل بإمكان المقاومة ان ترغم الولايات المتحدة على الرحيل؟ مثل هذا السؤال يمكن سماعه. والجواب الذي يتلقاه المرء عادة هو: لدي المقاومة استراتيجية سياسية وعسكرية متكاملة. الإستراتيجية العسكرية تستند الي ثلاثة محاور:
ايقاع أكبر قدر مكن من الخسائر البشرية، والى الحدّ الذي تصبح فيه قدرة الإحتلال على تحمل الخسائر مستحيلة.
تطوير ضربات المقاومة وتصعيدها بحيث تمتدّ آثارها ونتائجها الى خارج العراق. ايّ ان تغدو نيران المقاومة على حدود الكيان الصهيوني والمصالح الأمريكية.
وفي هذا النطاق فسوف يؤدي العبء الأخلاقي للحرب والإحتلال، على الإدارة الأمريكية والمتحالفين معها، الى فقدان ايّ مبررّ للإستمرار في احتلال العراق. وهذا ما سوف يدفعها الى التفتيش عن حلّ سياسي للخروج من المأزق.
أما المحاور السياسية (الأهداف) في هذه الإستراتيجية فهي تتحددّ في:
ليس من المتعذّر بالنسبة لأيّ مراقب او زائر لبغداد ومدن العراق، ان يتلمس المعني الحقيقي لإستحالة استمرار الإحتلال؟ لقد كنت اتساءل كلما مررت ُ بجوار حاجز او نقطة تفتيش، وما اكثرها في العراق المحتل: ترى مَنْ يسجن مَنْ؟ هل الإحتلال هو الذي يسجن الشعب داخل هذه الجدران الكونكريتية والأسلاك الشائكة، ام ان العراقيين هم الذين يسجنون قوات الإحتلال؟ لقد ارغم العراقيون قوات الإحتلال على ان تحبس نفسها داخل دباباتها. والدبابات خلف جدران كونكريتية وأسلاك شائكة. انهم يديرون احتلال البلاد من داخل ابراج دباباتهم عاجزين وخائفين من النزول الى الشارع. بهذا المعنى يصبح الإحتلال مستحيلا ويغدو الأمل عظيما بزوال المحتلين. لقد عدت الى بلادي وأنا متفائل بالنصر، وأغادر بغداد وانا اكثر تفاؤلا بأن بشائر النصر تلوح مع كل هتاف وطلقة وعبوة ناسفة وقطرة دم شهيد.
﴿ 4 ﴾
تيارات ومواقف
مع نهاية الإسبوع الأول، الذي أمضيته في استقبال ولقاء الأهل والأقارب والأصدقاء، والكثير من الشخصيات السياسية البارزة وممثلي القوى الإجتماعية والسياسية، أدركت أن أمامي عملا شاقا وكثيرا يتعيّن إنجازه. وكانت الخريطة السياسيّة ترتسم أمامي - بفضل هذه اللقاءات- بوضوح أكبر. قلت لنفسي انني سأمضي الوقت كله، بدءا من الإسبوع الثاني في محاولة لتحويل ما توصلت اليه سوية مع الآخرين، من تفاهمات عامة وأساسيّة الى مشروع سياسي. ولكن، وقبل ان أشرع في سلسلة زيارات الى الرمادي وكركوك وديالي وفي بغداد، من اجل لقاءات جديدة بهدف تعميق التفاهمات العامة، كان عليّ ان أقوم بتحليل معمّق لخريطة القوى والإحزاب والجماعات الجديدة التي دخلت المسرح، بهدف التعرّف بدّقة أكبر الى مواقفها وتصوّراتها ورؤاها. لا شكّ أن زائر بغداد، وحتى وإنْ جاء في زيارة خاطفة، وبعد سنوات من الغربة، سيجد نفسه في خضمّ وقائع جديدة تتشكل بسرعة وقوة. وقد تصادفه الكثير من المفاجآت، فالحراك السياسي والإجتماعي والتجاذبات الفكرية والتنافرات السياسية، وحتى التوافقات في المواقف، لا تبدو محكومة بقانون واحد، بل بمنظومة متشابكة تختلط فيها المصالح الأنانية الضيّقة بالحسابات السياسية، وهذه تختلط بدورها بنوع من التشوش في الرؤي. لأجل ذلك تطلب الأمر مني، منذ الأيام الأولى، الدخول في مناقشات عامة كان الغرض منها اعادة تحديد الثوابت. وكان عليّ ان أرددّ مع نفسي: ان الصبر والتروي وأخذ الوقت الكافي قبل تكوين انطباع نهائي، هي المفاتيح الحقيقية في عمل من هذا النوع، وفي ساحة سياسية تبدو أكثر تعقيدا ممّا يُخيَّل للمرء. ستتركز ملاحظاتي على تبيان أهمّ ملامح الخريطة السياسية.
هناك تياران رئيسيان تتميز بهما الحياة السياسيّة:
تيار القوى والجماعات المتحالفة مع الإحتلال أو المتواطئة معه. بوجه العموم يتألف هذا التيار من مجموعة من الأحزاب والقوى والشخصيّات الإجتماعية والسياسية ومن تيارات فكرية قديمة وجديدة، تشكل بمجموعها خليطا عجيبا. انها نتاج تلاقٍ مثير للمصالح الإنتهازية والأنانية والشهوة للسلطة، والرغبات الجنونية في اغتنام الفرصة للإثراء حتى على حساب وجود الوطن نفسه، بل ولأشكال غير مسبوقة من الإرتباط بالقوى الإجنبية، لا أظن ان تاريخ العراق القديم والحديث عرف مثيلا لها. هذا الخليط الذي يجمع رجال دين وشيوعيين ولصوصا وقوميين سابقين، ومَن يزعمون انهم ُدعاة لليبرالية والديمقراطية، يمكن تصنيفه بسهولة كتيار نما وترعرع في ظل المشروع الإستعماري الجديد.
اما التيار الثاني فهو تيار القوى والأحزاب والجماعات المناوئة للإحتلال. وهذا بكل يقين تيار عريض له جذور وامتدادات شعبية قوية وأصيلة، ويتمتع فوق ذلك، برصيد تاريخي يصعب التغاضي عنه او تشويهه. ان معظم شخصيّات هذا التيار، وكما عرفها المجتمع العراقي، تتسم لا بالنزاهة الشخصيّة وبعمق الإطلاع والقدرة على التحليل والشجاعة في المواقف، وانما كذلك بكونها عاشت السنوات الماضية كلها، في شظفٍ من العيش وظروف معقدّة ومُحزنة، لم تثنِ أو تثلم من عزائمها او تفتّ في عضدها. والكثير من هذه الشخصيّات اصابها حيف وجور النظام السابق في الصميم، ومع ذلك ظلت قادرة على ابداء مواقف متوازنة تغلبت فيها، بالفعل، المصالح العليا والتاريخية للوطن والشعب على ما عداها من مصالح.
هذا الطيف الواسع من الأحزاب والقوى الشعبية والجماعات والشخصيّات، يشمل بكل تأكيد النخب الفكرية والسياسية ذات التوجهات الوطنية العامة في المجتمع العراقي: اساتذة جامعات، اطباء. مهندسون. ومع ذلك يمكن عند تحليل ظروف تشكل هذا التيار، ان نلاحظ ان ثمة تمايزات داخله تنحصر، تقريبا، في أشكال وأدوات ووسائل التعبير عن المواقف. ليس ثمة خطاب سياسي واحد يجمع ممثلي هذا التيار، بل ثمة رؤى هي في جوهرها رؤى وطنية، ولكنها لم تتحول بعد الى مصدر من مصادر التوحيد والتجميع. ان بعض ممثلي هذا التيار - مثلا- يرى انَّ لا حل إلا بالمقاومة وتعميمها والإنخراط فيها، بينما ينظر بعض آخر، وبشيء من التحفظ الى المقاومة من منظور مختلف، ويطرح في المقابل تصورا يقول بأن السبيل الوحيد هو المقاومة السياسية، ولكن من دون ان يدعو الى رفض المقاومة كخيار كفاحي من خيارات الشعب. بالطبع مثل هذه التمايزات تنجم عن طبيعة تركيب هذا التيار.
إذا كانت الخريطة السياسية في عراق الإحتلال تتسم بهذا النوع من الإنقسام الظاهري الى تيارين، فإنها تتسم، في الواقع، بتركيبة أعقد. ففي داخل كل تيار من هذين التيارين، وعلى هامشهما، يمكن تلمس الكثير من التباينات والتعارضات والتجاذبات. بعضها جوهري وبعضها الآخر شكليّ.
في الزيارات التي قمت بها، انصبّ الحوار مع ممثلي هذا التيار، على تحديد القواسم المشتركة، والقيام بمقاربات سياسية اكثر قدرة على ايضاح وتحديد المهام العاجلة، تمهيدا للإنتقال نحو صيغ عملية وفاعلة. وفي هذا الإطار شرعت في سلسلة حوارات مع رجال دين بارزين في هيئة العلماء المسلمين (الشيخ حارث الضاري)، والتيار المقرّب من مقتدي الصدر والشيخ الخالصي. كما شمل الحوار التيار الذي يقوده الشيخ عبد الكريم المدني، والمجموعات القومية (العروبية) ممثلة بلجنة التنسيق القومي (صبحي عبدالحميد ووميض عمر نظمي وهادي خمّاس) والمجموعات الديمقراطية والمستقلين (ممثلين بجماعة العراق بيتنا) والتجمع الوطني المستقل (ومن ابرز رموزهما عبد اللطيف الميّاح ومحمد الشواف وخالد المعيني وعبد الرزاق العامري) وجماعة (كونفدرالية الإخاء الوطني) وحزب الإصلاح الديمقراطي (عصام عايد ونعمان الدليمي وفرحان المجول) والمئات من الشخصيّات الإجتماعية فضلا عن التيار اليساري في العراق. وبصدد هذا الجانب من اللقاءات بممثلي التيار اليساري، استطيع ان اقول انني لمست تجاوبا كبيرا مع مشروع (الجبهة الوطنية العريضة) من ممثلي القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، كما ابلغني تنظيم (الشيوعيين العراقيين الوطنيين) عن استعدادهم للإنضمام الى الجبهة الوطنية.
الإحتلال والفوضى والحرب الطائفية
هل الحرب الأهلية في العراق اليوم، هي خطر حقيقي وداهم؟ لم أسأل نفسي، قط، مثل هذا السؤال. ولولا انني سمعت بعض المتحدثين في الفضائيات العربية يرددّ ذلك، لما بادرت الى طرح السؤال. في الواقع لم يتسن لي الإستماع إلا في فترات متقطعة لنشرات الأخبار (خصوصا مع تكرار انقطاع الكهرباء في العاصمة). ومع ذلك، فقد لفت انتباهي ان الذين يشيعون هذه الخرافة ويحاولون تسويقها، انما يحاولون عبثا الإيحاء بأن بقاء الإحتلال هو الحل الوحيد لمواجهة خطر اندلاع حرب اهلية. ان التحرّي عن المصدر الحقيقي الذي يرّوج لفزّاعة الحرب الطائفية (او الأهلية) سوف يقود المرء الى جملة من الحقائق. ابرز هذه الحقائق ان المجتمع العراقي لا يعيش ايّ نوع من الإنقسام المؤدي الى ارتطام الحساسيّات الثقافية او الكتل الإجتماعية. على العكس من ذلك، ثمة اجماع متزايد عند الشيعة والسنّة على صيانة الوحدة الداخلية. ولا يعدم المرء - في هذا السياق- رؤية الكثير من مظاهر الوحدة بين الطوائف، والكثير من التوافقات على منع انزلاق البلاد الى ايّ نوع من المجابهات الدموية. في رمضان الفائت، مثلا، صام العراقيون جميعا في بغداد، سنة وشيعة، في يوم واحد (الأول من رمضان). ان الدلالة القوية التي تتضمّنها هذه الواقعة، تصبّ في الفكرة ذاتها: حماية الوحدة الداخلية. والذين يعرفون العراق جيدا، ولديهم اطلاع كافٍ على نوع وطبيعة التباينات او الإجتهادات داخله، يعرفون دلالة هذا التوافق بين ابناء الطائفتين على الصوم في يوم واحد. في الماضي، نادرا ما صام العراقيون شهر رمضان في يوم واحد - في بغداد على الأقل- بينما نراهم اليوم وفي ظل الإحتلال، يتجهون الى توحيد يوم صيامهم مع بدء شهر رمضان. ماذا تعني هذه الواقعة؟ إذا كانت هناك، كما يُزعم، بوادر او مظاهر تدّلل على امكانية اندلاع فتنة طائفية، فمن المنطقي ان يستمر العراقيون في ظل الإحتلال، على ما اعتادوا عليه من اختلاف وتباين؟ خلقت هذه الواقعة، كما لمست ذلك بنفسي اثناء لقاءاتي وزياراتي - جوّا جديدا عند الجمهور الشعبي، الذي تعاظمت قناعته واصراره على الحفاظ على الوحدة الوطنية. في الواقع كانت هناك ملامح انقسامات ذات طابع مذهبي في ظل النظام السابق. بيد ان الناس في ظل الإحتلال لا يتحثون إلا بلغة (نحن عراقون. كلنا عراقيون) وهذا بكل تأكيد له دلالته في نطاق الرّد على ما يشاع عن فتنة طائفية. ان الوظيفة الحقيقية لهذا النوع من الخرافات السياسية التي يرّوج لها المحتلون وأعوانهم، هي تبرير الدعوات للإبقاء على الإحتلال وتسويق أفضاله.
يسوق العراقيون - للتدليل على عمق التزامهم بوحدتهم- سلسلة من الأدلة المقنعة. انهم يقولون:
إذا كان رحيل قوات الإحتلال سوف يسفر عن فوضى، كما يُزعم، فالفوضي جلبها الإحتلال نفسه، وبالتالي، فإنها سوف تزول بزواله. لقد كان العراق بلدا مشهودا له بالأمان والإنضباط، بينما جاء الإحتلال بالخراب والدمار والفوضى والفتن.
ان الإحتلال هو الذي كرّس صورة مزيفة عن الشعب بوصفه (مجموعة لصوص وعصابات اجرام) لتبرير تصرفاته التالية، بينما يعرف العالم كله ان العراق بلد العلماء والأدباء والمتعلمين. والإحتلال نفسه هو الذي يكرّس صورة مزيفة اخرى، يرّوج لها المتواطئون معه وتقول: ان الفوضى سوف تعمّ العراق في حالة غادرت هذه القوات.
ولذلك فثمة ترابط وثيق بين خرافة الحرب الأهلية، وبين الإتفاق الذي عاد به بريمر من واشنطن. هذا الإتفاق الذي ُيراد له ان يؤدي، ويصورة مخادعة، الى جعل الإحتلال عملا مشروعا.
وفي هذا السياق، فإن ما يسمى اتفاق بريمر - الطالباني القاضي بنقل السلطة الى العراقيين (في حزيران القادم) ينطوي على بنود لا غرض لها سوى اضفاء مسحة من الشرعية الكاذبة على الوجه القبيح للإحتلال، فهي تنصّ على ان الحكومة المقبلة ستبرم اتفاقا لإعادة انتشار وتموضع القوات المحتلة. كما تنصّ على التأكيد (بأن للقوات الأمريكية الحق المطلق في الإنتشار في كل ارجاء العراق لضمان أمن وسلامة العراقيين) وهو ما يعني اعادة انتاج الإحتلال بطريقة اخرى. والى هذا كله، فإن الإتفاق ينصّ على اختيار وتعيين مجلس جديد مؤلف من 250 عضوا بواصفات وشروط تتلاءم مع مخططات الإحتلال. من هنا يتساءل العراقيون: ترى، وفق أيّ نموذج ديمقراطي في العالم، يريد الأمريكيون لنا ان نشكل الحكومة المقبلة؟ وأية حكومة هذه التي يختارها مجلس نصبّه الإحتلال؟
تفكيك مرتكزات الإحتلال
مثل هذه الآراء والأفكار ترددّت على مساعي، بقوة، وأنا أجلس مع شيوخ العشائر للتداول بشأن (الجبهة الوطنية العريضة). كانت الوحدة الوطنية حاضرة، هناك، في مضايف ومجالس شيوخ العشائر السنيّة والشيعية. رأيتها تتجسدّ بأسطع وابلغ المعاني والدلالات في الروح الشعبية الصادقة، ومشاعر الموّدة والترحيب التي كان رجال العشائر يتبادلونها. كان لقائي مع رابط عشائر العراق، وهي أكبر كتلة بشرية وسياسيّة اليوم في العراق، من بين أكثر اللقاءات التي أشاعت في نفسي الأمل والثقة بقدرة الشعب على تجاوز محنته. لقد رأيت واستمعت الى رجال مؤمنين صادقين.
تضمّ الربطة كبار شيوخ عشائر آل فتلة (الديوانية) الذين أشتهروا في التاريخ السياسي والإجتماعي العراقي الحديث بدورهم البطولي في الثورة الكبرى (1920) وكبار شيوخ بني كعب (العمارة) وشيوخ العُبيد وزوبع والدليم، ومن دون ان يكون هناك ايّ أثر للفروقات المذهبية. كان الوطن الجريح يرفرف فوق الجميع. وعندما عرضت مشروع وثيقة (الجبهة الوطنية العريضة) لمست معنى الوطنية ومعنى الإستعداد لحماية الوحدة الوطنية.
يعالج مشروع الوثيقة جملة من القضايا، في مقدمتها:
مقاومة الإحتلال بكل الوسائل، والنضال من اجل طرد كل القوات الأجنبية واستعادة استقلال البلاد. مع التأكيد علي ان الوظيفة التاريخية للجبهة هي: تنشيط وتطوير وقيادة العمل السياسي. وهذا يعني - حسب نص المشروع- ان الجبهة ستكون هي الأداة السياسيّة للمقاومة والمعبرّ عن كل قواها.
ان الجبهة تعتبر الإحتلال جزءا لا يتجزأ من المشروع الإستعماري الجديد (الصهيوني والأمبريالي). وهذا الإحتلال في جوهره، استكمال لإحتلال فلسطين. وبالتالي، فإن المعركة واحدة من فلسطين الى العراق وفي كل ساحات الأمة.
ان الجبهة تنشد من وراء قيامها ونضالها، تحقيق حكم دستوري يتمتع فيه العراقيون جميعا بنظام حكم، يقوم على اساس ديمقراطي تعددّي، (وتقوم على اساس الموطنة والإنتماء للعراق) فالعراق لكل العراقيين.
ان الجبهة الوطنية العريضة ترحب بأيّ مجموعة او حركة تترك دائرة التعاون مع الإحتلال وتنأي بنفسها بعيدا عن مشاريعه الإستعمارية، وسوف تكون الجبهة مستعدة للإنتفتاح على أي تغيير في المواقف، بشرط ان تتحررّ - ايّ حركة او مجموعة- من تبعات التعاون مع الإحتلال.
ان الجبهة تعمل من اجل تفكيك بنى ومرتكزات الإحتلال السياسية وتجريده من ادواته المحلية. وفي هذا الإطار، فإن تطوّر مواقف ايّ جماعة سياسية، سيظل رهنا بقدرتها على تحرير نفسها من نتائج ارتباطاتها السابقة.
لابد لي من الإشارة - هنا- الى نوع وطبيعة المشكلات التي تواجه القوى السياسية المناوئة للإحتلال. الكثير من هذه القوى، أمّا انها اعادت تأسيس نفسها حديثا، وإمّا انها حديثة التكوين أصلا. وبالطبع، وفي وضع معقدّ كالوضع العراقي، فإن المرحلة الراهنة من النشاط والعمل السياسي، بشكل عام، تتسم بكونها مرحلة (بدايات استعادة الوعي) بعد فترة قصيرة من الذهول وربما الإرتباك جرّاء صدمة الإحتلال. وهذا يعني ان القوى والجماعات السياسية المناوئة للإحتلال، لم تتمكن من التعرّف بصورة مباشرة، وممُنهجة، على مواقف ورؤى وتصورات بعضها البعض، وبحيث يتسنى لها جميعا انشاء قواسم مشتركة واشكال من التعاون او الروابط والإتصالات. والى جانب ذلك، فإن هذه القوى لم تدخل من قبل في حوارات معمّقة حول القضايا المُثارة. وللتدليل على أثر هذا النقص - في الإتصالات والحوارات- سأورد مثالا واحدا: ان قوى التيار المناويء للإحتلال، تملك رؤى مختلفة تجاه أساليب وأشكال التعامل مع الجماعات التي من المحتمل ان تترك جبهة العدو، او تقوم بتصحيح مواقفها. هذا التباين كان قابلا للزوال مع أول الإتصالات والحوارات التي قمت او ساهمت في تنظيمها. لقد حلّ محل التباين، نوع من التفهم المشترك لأهمية تفكيك جبهة العدو واضعاف معسكره السياسي. هذا المثال يوضح اهمية وضرورة انشاء وتاسيس ارضيات جديدة للحوار والإتصال بين الكتل الإجتماعية والسياسية. وفي هذا السياق، لمست بنفسي، ومن خلال سلسلة من النقاشات مع شيوخ العشائر والسياسيين والنخب، اهمية وجود إطار سياسي عريض يجسدّ إرادة المقاومة سياسيّا، ويعبرّ عن تطلعاتها وأهدافها ويتولى تعميق الفهم الشعبي لما تنشده. كما لمست ُ الحرص على اهمية وجود إطار سياسي يكون هو الضمانة الحقيقية، لعدم انزلاق القوى المناوئة للإحتلال نحو أيّ نوع من الإحتراب الداخلي. ومن غير شكّ، فإن الجبهة الوطنية العريضة هي التي تكفل لجميع القوي امكانية الحدّ، بالفعل، من تأثير السياسات التقسيميّة والطائفية التي تنتهجها قوات الإحتلال ومجلس الحكم.
ملاحظات أخيرة
ليس غريبا ان المرء حتى اثناء جولات وزيارات غير مخطط لها، يمكنه ان يلمس مشاعر الرفض والعداء للإحتلال، وان يشاهد بنفسه كيف تتصاعد مشاعر التأييد لأعمال المقاومة المسلحة. لقد اصبحت المقاومة ثقافة عامة. لم يعد احد يسمع او يقول عبارة (انا ضد المقاومة). وعلى العكس من ذلك شاعت تعبيرات تنتقص من الرجال الذين لا يتخذون مواقف رجولية وشجاعة، ووصل الأمر حدّ ان بعض رجال العشائر الذين يتعاونون مع الإحتلال، صاروا يتلقون هدايا من مجهولين هي (عباءات نسائية) او (احمر شفاه) كتعبير ساخر من رجولتهم. واذكرّ انني سمعت مرارا وتكرارا النساء وهنّ يرددّن على مسامع ازواجهن بعد الصلاة والدعاء بالجنة: اتريدون الجنةّ حقا؟ باب الجنة مفتوح. تلك هي الجنة. اذهبوا الى المقاومة واستشهدوا؟ ولكي أدللّ على عمق وجذرية هذا التحول في الموقف من المقاومة والإحتلال، فسوف اكتفي بالإشارة هنا الى الأحاديث التي يتبادلها الناس عن التحاق الشباب بالمقاومة. ان الشبّان الذين لم يكونوا يوما اسلامييّن او بعثييّن، بل ولم يكونوا سياسييّن أصلا، هم اليوم في قلب المقاومة وصاروا يلتحقون بها باعداد كبيرة، من دون ان يهتمّوا بعناوينها سواء أكانت بعثيّة ام اسلاميّة. هذا الأمر لا يعنيهم. ما يعنيهم هو تحرير بلادهم.
العراق مرجل يغلي ويفور. في لحظة ثمة مفاجأة، وفي زاوية كل شارع ثمة جسد يقاوم. أما لذين تواطأوا مع الغزو وعملوا في خدمة الإحتلال، فإنهم يشعرون مع فجر كل يوم بالعزلة، وبالخيبة. ومن المستحيل عليهم مواصلة مواصلة خداع النفس بأن الفوضي هي ديمقراطية وان الخراب هو بناء.
التجديد العربي 2004-02-20
0 Comments:
"Join this group" مجموعة العروبيين : ملتقى العروبيين للحوار البناء من أجل مستقبل عربي افضل ليشرق الخير و تسمو الحرية | ||
Subscribe to Arab Nationalist | ||
Browse Archives at groups-beta.google.com |
This work is licensed under a Creative Commons License.
Anti War - Anti Racism
Let the downFall of Sharon be end to Zionism
By the Late, great political cartoonist Mahmoud Kahil